" صفحة رقم ٢٥٣ "
والمُمْكِنُهُ : فالذين بلغوا اليأس من الولادة، ولهم أولاد كبار أو لا أولاد لهم، يدخلون في فرض هذا الشرط لأنّهم لو كان لهم أولاد صغار لخافوا عليهم، والذين لهم أولاد صغار أمرُهم أظْهَر.
وفعل ( تركوا ) ماض مستعمل في مقاربة حصول الحدث مجازا بعلاقة الأول، كقوله تعالى :( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصيةٌ لأزواجهم ( ( البقرة : ٢٤٠ ) وقوله تعالى :( لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم ( ( الشعراء : ٢٠١ ) وقول الشاعر :
إلى مَلِك كادَ الجبال لفقده
تَزول زوال الراسيات من الصخر
أي وقاربت الراسيات الزوال إذ الخوف إنّما يكون عند مقاربة الموت لا بعد الموت. فالمعنى : لو شارَفُوا أن يتركوا ذرّيّة ضعافاً لخافوا عليهم من أولياء السوء.
والمخاطب بالأمر من يصلح له من الأصناف المتقدمة : من الأوصياء، ومن الرجال الذين يحرمون النساء ميراثهن، ويحرمون صغار إخوتهم أو أبناء إخوتهم وأبناء أعمامهم من ميراث آبائهم، كلّ أولئك داخل في الأمر بالخشية، والتخويف بالموعظة، ولا يتعلّق هذا الخطاب بأصحاب الضمير في قوله :( فارزقوهم منه ( ( النساء : ٨ ) لأنّ تلك الجملة وقعت كالاستطراد، ولأنّه لا علاقة لمضمونها بهذا التخويف.
وفي الآية ما يبعث الناس كلّهم على أن يغضبوا للحقّ من الظلم، وأن يأخذوا على أيدي أولياء السوء، وأن يحرسوا أموال اليتامى ويبلغوا حقوق الضعفاء إليهم، لأنّهم إن أضاعوا ذلك يوشك أن يلحق أبناءهم وأموالهم مثل ذلك، وأنْ يأكل قويُّهم ضعيفهم، فإنّ اعتياد السوء ينسي الناس شناعته، ويكسب النفوس ضراوة على عمله. وتقدّم تفسير الذرّيّة عند قوله تعالى :( ذرية بعضها من بعض في سورة آل عمران ( ٣٤ ).
وقوله : فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً ( فُرّع الأمرُ بالتقوى على الأمر بالخشية وإن كانا أمرين متقاربين : لأنّ الأمر الأول لمّا عضّد بالحجّة اعتبر كالحاصل فصحّ التفريع عليه، والمعنى : فليتقوا الله في أموال الناس وليحسنوا إليهم القول.