" صفحة رقم ١٧١ "
وأنتم سواء في جحد الحقّ، وإن لم تجعل الآية مشيرة إلى ما ذكر في أسباب النزول تعيّن أن تجعل المراد بِ ) الذين آتيناهم الكتاب ( بعض أهل الكتاب، وهم المنصفون منهم مثل عبد الله بن سلام ومخيريق، فقد كان المشركون يقدُرون أهل الكتاب ويثقون بعلمهم وربما اتّبع بعض المشركين دين أهل الكتاب وأقلعوا عن الشرك مثل ورقة بن نوفل، فلذلك كانت شهادتهم في معرفة صحّة الدين موثوقاً بها عندهم إذا أدّوها ولم يكتموها. وفيه تسجيل على أهل الكتاب بوجوب أداء هذه الشهادة إلى الناس.
فالضمير المنصوب في قوله :( يعرفونه ( عائد إلى القرآن الذي في قوله :( وأوحي إليّ هذا القرآن ( ( الأنعام : ١٩ ). والمراد أنَّهم يعرفون أنّه من عند الله ويعرفون ما تضمّنه ممّا أخبرت به كتبهم، ومن ذلك رسالة من جاء به، وهو محمد ( ﷺ ) لما في كتبهم من البشارة به. والمراد بالذين أوتوا الكتاب علماء اليهود والنصارى كقوله تعالى :( قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ( ( الرعد : ٤٣ ).
والتشبيه في قوله :( كما يعرفون أبناءهم ( تشبيه المعرفة بالمعرفة. فوجه الشبه هو التحقّق والجزم بأنّه هو الكتاب الموعود به، وإنّما جعلت المعرفة المشبّه بها هي معرفة أبنائهم لأن المرء لا يضلّ عن معرفة شخص ابنه وذاته إذا لقيه وأنّه هو ابنه المعروف، وذلك لكثرة ملازمة الأبناء آباءهم عرفاً.
وقيل : إنّ ضمير ) يعرفونه ( عائد إلى التوحيد المأخوذ من قوله :( إنّما هو إله واحد ( ( الأنعام : ١٩ ) وهذا بعيد. وقيل : الضمير عائد إلى النبي ( ﷺ ) مع أنّه لم يجر له ذكر فيما تقدّم صريحاً ولا تأويلاً. ويقتضي أن يكون المخاطب غير الرسول ( ﷺ ) وهو غير مناسب على أنّ في عوده إلى القرآن غنية عن ذلك مع زيادة إثباته بالحجَّة وهي القرآن.
وقوله :( الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ( استئناف لزيادة إيضاح تصلّب المشركين وإصرارهم، فهم المراد بالذين خسروا أنفسهم كما أريدوا بنظيره السابق الواقع بعد قوله ) ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ( ( النساء : ٨٧ ). فهذا من التكرير للتسجيل وإقامة الحجَّة وقطع المعذرة، وأنّهم مصرّون على الكفر حتى ولو شهد بصدق الرسول