" صفحة رقم ٢٠٠ "
فيكم وأصدقكم حديثاً حتّى إذا رأيتم الشيب في صدغيه قلتم ساحر وقلتم كاهن وقلتم شاعر وقلتم مجنون ووالله ما هُو بأولئكم ). ولأنّ الآيات التي جاء بها لا يمتري أحد في أنّها من عند الله، ولأنّ دلائل صدقه بيِّنة واضحة ولكنّكم ظالمون.
والظالم هو الذي يجري على خلاف الحقّ بدون شبهة. فهم ينكرون الحق مع علمهم بأنّه الحق، وذلك هو الجحود. وقد أخبر الله عنهم بذلك وهو أعلم بسرائرهم. ونظيرها قوله تعالى حكاية عن قوم فرعون ) وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلُوّاً ( ( النمل : ١٤ ) فيكون في الآية احتباك. والتقدير : فإنّهم لا يكذّبونك ولا يكذّبون الآيات ولكنّهم يجحدون بالآيات ويجحدون بصدقك، فحذف من كلَ لدلالة الآخر.
وأخرج الترمذي عن ناجية بن كعب التابعي أنّ أبا جهل قال للنبيء ( ﷺ ) لا نكذّبك ولكن نكذّب ما جئت به. فأنزل الله ) فإنّهم لا يكذّبونك ولكنّ الظالمين بآيات الله يجحدون ). ولا أحسب هذا هو سبب نزول الآية. لأنّ أبا جهل إن كان قد قال ذلك فقد أراد الاستهزاء، كما قال ابن العربي في ( العارضة ) : ذلك أنّه التكذيب بما جاء به تكذيب له لا محالة، فقوله : لا نكذّبك، استهزاء بإطماع التصديق.
٣٤ ) ) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ ).
عطف على جملة ) فإنّهم لا يكذّبونك ( ( الأنعام : ٣٣ ) أو على جملة ) ولكنّ الظالمين بآيات الله يجحدون ( ( الأنعام : ٣٣ ). ويجوز أن تكون الواو واو الحال من الكلام المحذوف قبل الفاء، أي فلا تحزن، أو إن أحزنك ذلك فإنّهم لا يكذّبونك والحال قد كذّبت رسل من قبلك. والكلام على كلّ تقدير تسلية وتهوين وتكريم بأنّ إساءة أهل الشرك لمحمد عليه الصلاة والسلام هي دون ما أساء الأقوام إلى الرسل من قبله ؛ فإنّهم كذّبوا بالقول والاعتقاد وأمّا قومه فكذّبوا بالقول فقط. وفي الكلام أيضاً تأسَ للرسول بمن قبله من الرسل.