" صفحة رقم ٢٣٥ "
والضمير المجرور بالباء عائد إلى السمع والأبصار والقلوب، على تأويلها بالمذكور فلذلك لم يقل بها. وهذا استعمال قليل في الضمير، ولكنَّه فصيح. وقد تقدّم في تفسير قوله تعالى :( إنّ الذين كفروا لو أنّ لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به في سورة المائدة ( ٣٦ )، وعند قوله : وآتوا النساء صدقاتهنّ نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً في سورة النساء ( ٤ )، وإيثاره هنا على أن يقال : يأتيكم بها، لدفع توهّم عود الضمير إلى خصوص القلوب.
والكلام جار مجرى التهديد والتخويف، اختير فيه التهديد بانتزاع سمعهم وأبصارهم وسلْب الإدراك من قلوبهم لأنَّهم لم يشكروا نعمة هذه المواهب بل عدموا الانتفاع بها، كما أشار إليه قوله آنفاً وجعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً وإن يروا كلّ آية لا يؤمنوا بها ( ( الأنعام : ٢٥ ). فكان ذلك تنبيهاً لهم على عدم إجداء هذه المواهب عليهم مع صلاحيتها للانتفاع، وناسب هنا أن يهدّدوا بزوالها بالكليّة إن داموا على تعطيل الانتفاع بها فيما أمر به خالقها.
وقوله ) انْظُرْ ( تنزيل للأمر المعقول منزلة المشاهد، وهو تصريف الآيات مع الإعراض عنها حتّى أنّ النّاظر يستطيع أن يراها، فأمّا الأمر فهو مستعمل في التعجيب من حال إعراضهم.
والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً تتنزّل منزلة التذييل للآيات السابقة، فإنّه لمَّا غمرهم بالأدلّة على الوحدانية وصدْق الرسول، وأبطل شبههم عقّب ذلك كلّه بالتعجيب من قوّة الأدلّة مع استمرار الإعراض والمكابرة، وقد تقدّم قريب منه عند قوله تعالى :( انظر كيف يفترون على الله الكذب في سورة النساء ( ٥٠ ). وهذا تذكير لهم بأنّ الله هو خالق أسماعهم وأبصارهم وألبابهم فما كان غيره جديراً بأن يعبدون.
وتصريف الآيات اختلاف أنواعها بأن تأتي مرة بحجج من مشاهدات في السماوات والأرض، وأخرى بحجج من دلائل في نفوس الناس، ومرّة بحجج من أحوال الأمم الخالية التي أنشأها الله، فالآيات هنا هي دلائل الوحدانية، فهي متَّحدة في الغاية مختلفة