" صفحة رقم ٢٤٢ "
بإظهار فعل القول فيه، خلافاً لقوله :( ولا أعلم الغيب ( لعلَّه لدفع ثقل التقاء حرفين :( لا ) وحرف ( إنّ ) الذي اقتضاه مقام التأكيد، لأنّ إدّعاء مثله من شأنه أن يؤكّد، أي لم أدّع أنِّي من الملائكة فتقولوا :( لولا أنزل عليه ملك ( ( الأنعام : ٨ )، فنفي كونه ملكاً جواب عن مقترحهم أن ينزَل عليهم ملك أو أن يكون معه ملك نذيراً. والمقصود نفي أن يكون الرسول من جنس الملائكة حتى يكون مقارناً لمَلك آخر مقارنة تلازم كشأن أفراد الجنس الواحد. وكانوا يتوهَّمون أنّ الرسالة تقتضي أن يكون الرسول من غير جنس البشر فلذلك قالوا :( ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ( ( الفرقان : ٧ ). فالمعنى نفي ماهية المَلَكية عنه لأنّ لجنس الملك خصائص أخرى مغايرة لخصائص البشر. وهذا كما يقول القائل لمن يكلِّفه عنتاً : إنِّي لست من حديد.
ومن تلفيق الاستدلال أن يستدلّ الجُبائي بهذه الآية على تأييد قول أصحابه المعتزلة بتفضيل الملائكة على الأنبياء مع بُعد ذلك عن مهيع الآية. وقد تابعه الزمخشري، وكذلك دأبه كثيراً ما يُرْغِم معاني القرآن على مسايرة مذهبه فتنزو عصبيته وتَنْزوي عبقريته، وهذه مسألة سنتكلَّم عليها في مظنَّتها.
وجملة ) إنْ أتَّبع إلاّ ما يُوحي إليّ ( مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنّه لمَّا نفي أن يقول هذه المقالات كان المقامُ مثيراً سؤال سائل يقول : فماذا تدّعي بالرسالة وما هو حاصلها لأنّ الجهلة يتوهَّمون أنّ معنى النبوءة هو تلك الأشياء المتبرّأ منها في قوله :( قل لا أقول لكم عندي خزائن ( الخ، فيجاب بقوله :( إن أتَّبع إلاّ ما يوحي إليّ (، أي ليست الرسالة إلاّ التبليغ عن الله تعالى بواسطة الوحي.
فمعنى ) أتَّبع ( مجاز مرسل في الاقتصار على الشيء وملازمته دون غيره. لأنّ ذلك من لوازم معنى الاتِّباع الحقيقي وهو المشي خلف المتّبَع بفتح الموحّدة، أي لا أحيد عن تبليغ ما يوحى إليّ إلى إجابة المقترحات من إظهار الخوارق أو لإضافة الأرزاق أوْ إخبار بالغيب، فالتَّلقِّي والتبليغ هو معنى الاتِّباع، وهو كنه الرسالة عن الله تعالى. فالقصر المستفاد هنا إضافي، أي دون الاشتغال بإظهار ما تقترحونه من الخوارق للعادة. والغرض من القصر قلب اعتقادهم أنّ الرسول لا يكون رسولاً حتَّى يأتيهم بالعجائب