" صفحة رقم ١١٢ "
لتجرّد لفظه عن علامة تأنيث، وقد يراعى المقصود منه فيجري الإخبار على اعتباره، وقد اجتمعا في قوله تعالى :( ومنهم من يستمع إليك حتّى إذا خرجوا من عندك ( ( محمد : ١٦ ). وقرأ ابنُ عامر بالفوقيّة على اتّباع تأنيث ) خالصة (، أي إن تكن الأجنّة، وقرأ ) ميتة ( بالنّصب، وقرأه أبو بكر عن عاصم بالتّأنيث والنّصب.
وجملة :( سيجزيهم وصفهم ( مستأنفة استئنافاً بيانياً، كما قلتُ في جملة :( سيجزيهم بما كانوا يفترون ( ( الأنعام : ١٣٨ ) آنفاً.
والوصف : ذكر حالات الشّيء الموصوف وما يتيمّز به لمن يريد تمييزه في غرض ما، وتقدّم في قوله :( سبحانه وتعالى عمّا يصفون في هذه السّورة ( ١٠٠ ). والوصف، هنا : هو ما وصفوا به الأجنّة من حِلّ وحرمَة لفريق دون فريق، فذلك وصف في بيان الحرام والحلال منه كقوله تعالى : ولا تَقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام ( ( النحل : ١١٦ ).
وجزاؤهم عنه هو جزاء سوءٍ بقرينة المقام، لأنّه سمّى مزاعمهم السّابقة افتراء على الله. وجُعل الجزاء متعدّيا للوصف بنفسه على تقدير مضاف، أي : سيجْزيهم جزاءَ وصفهم. ضمّن ) يجزيهم ( معنى يُعطيهم، أي جزاء وفاقاً له.
وجملة :( إنه حكيم عليم ( تعليل لكون الجزاء موافقا لجرُم وصفهم. وتؤذن ( إنّ ) بالربط والتّعليل، وتُغني غناء الفاء، فالحكيم يضع الأشياء مواضعها، والعليم يطّلع على أفعال المجزيين، فلا يضيع منها ما يستحقّ الجزاء.
" صفحة رقم ١١٢ "
برسالة محمّد عليه الصّلاة والسّلام فإنّ الله ذكر أولياء الشّياطين وبعض صفاتهم بقوله :( إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون ( ( الأعراف : ٢٧ ) وذكر أنّ الله عهد لبني آدم منذ القدم بأن يتّبعوا من يجيئهم من الرّسل عن الله تعالى بآياته ليتّقوا ويصلحوا، ووعدهم على اتباع ما جاءهم بيني الخوف والحزن وأوعدهم على التّكذيب والاستكبار بأن يكونوا أصحاب النّار، فقد أعذر إليهم وبصّرهم بالعواقب، فتفرّع على ذلك : أن من كَذَب على الله فزعم أنّ الله أمره بالفواحش، أوْ كَذب بآيات الله التي جاء بها رسوله، فقد ظلم نفسه ظُلماً عظيماً حتّى يُسْأل عمن هو أظلم منه.
ولك أن تجعل جملة :( فمن أظلم ممن افترى ( ( الأنعام : ١٤٤ ) إلخ معترضة بين جملة :( أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( ( الأعراف : ٣٦ ) وجملة :( أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ( كما سيأتي في موقع هذه الأخيرة، وقد تقدّم الكلام على تركيب :( من أظلم ممن ( عند قوله تعالى :( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه في سورة البقرة ( ١١٤ )، وأنّ الاستفهام للإنكار، أي لا أحد أظلم.
والافتراء والكذب تقدّم القول فيهما عند قوله تعالى : ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب في سورة العقود ( ١٠٣ ). ولهذه الآية اتّصال بآية : وكم من قرية أهلكناها ( ( الأعراف : ٤ ) من حيث ما فيها من التّهديد بوعيد عذاب الآخرة وتفظيع أهواله.
و ( من ) استفهام إنكاري مستعمل في تهويل ظلم هذا الفريق، المعبّر عنه بمَن افترى على الله كذباً. و ( مَنْ ) الثّانية موصولة، وهي عامة لكلّ من تتحقّق فيه الصّلة، وإنّما كانوا أظلم النّاس ولم يكن أظلمُ منهم، لأنّ الظلم اعتداء على حقّ، وأعظم الحقوق هي حقوق الله تعالى، وأعظم الاعتداء على حقّ الله الاعتداءُ عليه بالاستخفاف بصاحبه العظيم، وذلك بأن يكذّب بما جاءه من قِبله، أو بأن يَكْذِب عليه قيبلِّغ عنه ما لم يأمر به فإنْ جَمَع بين الأمرين فقد عطّل مراد الله تعالى من جهتين : جهة إبطال ما يدلّ على مراده، وجهة إيهام النّاس بأنّ الله أراد منهم ما لا يريده الله.