" صفحة رقم ١١٤ "
التّناسل، حفظاً للنّوع، وتعميراً للعالم، وإظهاراً لما في الإنسان من مواهبَ تنفعه وتنفع قومه، على ما في عملهم من اعتداء على حقّ البنت الّذي جعله الله لها وهو حقّ الحياة إلى انقضاء الأجل المقدّر لها وهو حقّ فطري لا يملكه الأب فهو ظلم بيّن لرجاء صلاح لغير المظلوم ولا يُضَرّ بأحد ليَنتفع غيره. فلما قتل بعض العرب بناتِهم بالوأْد كانوا قد عطّلوا مصالحَ عظيمة محقّقة، وارتكبوا به أضراراً حاصلة، من حيث أرادوا التخلّص من أضرار طفيفة غير محقّقة الوقوع، فلا جرم أن كانوا في فعلهم كالتّاجر الّذي أراد الرّبح فباء بضياع أصل ماله، ولأجل ذلك سمَّى الله فعلهم : سفهاً، لأنّ السّفه هو خفّة العقل واضطرابه، وفعلهم ذلك سفه محض، وأيُّ سفه أعظم من إضاعة مصالح جمّة وارتكاب أضرار عظيمة وجناية شنيعة، لأجل التخلّص من أضرار طفيفة قد تحصُل وقد لا تحصل. وتعريف المسند إليه بالموصولية للإيماء إلى أنّ الصّلة علّة في الخبر فإنّ خسرانهم مسبّب عن قتل أولادهم.
وقوله :( سفهاً ( منصوب على المفعول المطلق المبين لنوع القتل : أنّه قتلُ سفه لا رأي لصاحبه، بخلاف قتل العَدوّ وقتْل القاتل، ويجوز أن ينتصب على الحال من ) الذين قتلوا (، وصفوا بالمصدر لأنّهم سفهاءُ بالغون أقصى السفه.
والباء في قوله :( بغير علم ( للملابسة، وهي في موضع الحال إمَّا منْ ) سفهاً ( فتكون حالاً مؤكّدة، إذ السفه لا يكون إلاّ بغير علم، وإمَّا من فاعل ) قتلوا (، فإنَّهم لمّا فعلوا القتل كانوا جاهلين بسفاهتهم وبشناعة فعلهم وبعاقبة ما قدّروا حصوله لهم من الضرّ، إذ قد يحصل خلاف ما قدّروه ولو كانوا يزنون المصالح والمفاسد لما أقدموا على فعلتهم الفظيعة.
والمقصود من الإخبار عن كونه بغير علم، بعد الإخبار عنه بأنّه
" صفحة رقم ١١٤ "
وجملة ) أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ( يجوز أن تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن الاستفهام في قوله :( فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ( الآية، لأنّ التّهويل المستفاد من الاستفهام يسترعي السّامع أن يَسأل عمّا سيلاقُونه من الله الذي افتروا عليه وكذّبوا بآياته.
ويجوز أن تكون جملة :( أولئك ينالهم نصيبهم ( عطف بيان لجملة :( أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ( ( الأعراف : ٣٦ ) أي خالدون الخلود الذي هو نصيبهم من الكتاب.
وتكملة هذه الجملة هي جملة :( حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم ( الآية كما سيأتي.
ومادة النّيل والنّوال وردت واوية العين ويائية العين مختلطتين في دواوين اللّغة، غير مفصحةً عن توزيع مواقع استعمالها بين الواوي واليائيّ، ويظهر أن أكثر معاني المادتين مترادفة وأنّ ذلك نشأ من القلب في بعض التّصاريف أو من تداخل اللّغات، وتقول نُلْتُ بضمّ النّون من نال يُنول، وتقول نِلْت بكسر النّون من نال يَنِيل، وأصل النّيْل إصابة الإنسان شيئاً لنفسه بيَده، ونوّله أعطاهُ فنال، فالأصل أن تقول نَال فلان كسباً، وقد جاء هنا بعكس ذلك لأنّ النّصيب من الكتاب هو أمر معنوي، فمقتضى الظّاهر أن يكون النّصيب مَنُولا لا نَائلاً، لأنّ النّصيب لا يُحصِّل الذين افتروا على الله كذباً، بل بالعكس : الذين افتروا يحصلونه، وقد جاء ذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى :( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ( ( الحج : ٣٧ ) وقوله ) سينالهم غضب من ربهم ( ( الأعراف : ١٥٢ )، فتعيّن أن يكون هذا إمّا مجازاً مرسلاً في معنى مطلق الإصابة، وإمّا أن يكون استعارة مبنيّة على عكس التّشبيه بأن شبّه النّصيب بشخص طالب طِلبة فنالها، وإنّما يصار إلى هذا للتّنبيه على أنّ الذي ينالهم شيءٌ يكرهونه، وهو يطلبهم وهم يفرّون منه، كما يطلب العدوّ عدوّه، فقد صار النّصيب من الكتاب كأنَّه يطلب أن يحصِّل الفريق