" صفحة رقم ١١٧ "
الواو في :( وهو الذي أنشأ ( للعطف، فيكون عطف هذه الجملة على جملة ) وحرّموا ما رزقهم الله ( ( الأنعام : ١٤٠ ) تذكيراً بمنة الله تعالى على النّاس بما أنشأ لهم في الأرض ممّا ينفعهم، فبعد أن بيّن سوء تصرّف المشركين فيما مَنّ به على النّاس كلّهم مع تسفيه آرائهم في تحريم بعضها على أنفسهم، عطف عليه المنّة بذلك استنزالاً بهم إلى إدراك الحقّ والرّجوععِ عن الغي، ولذلك أعيد في هذه الآية غالب ما ذكر في نظيرتها المتقدّمة في قوله :( وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كلّ شيء فأخرجنا منه خَضِراً نُخرِج منه حبّاً متراكباً ومن النّخل من طلعها قنوان دانية وجنّات من أعناب والزّيتون والرمّان مشتبهاً وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه ( ( الأنعام : ٩٩ ) لأنّ المقصود من الآية الأولى الاستدلال على أنَّه الصّانع، وأنَّه المنفرد بالخلق، فكيف يشركون به غيره. ولذلك ذيّلها بقوله :( إنّ في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون ( ( الأنعام : ٩٩ )، وعطف عليها قوله :( وجعلوا لله شركاء الجنّ ( ( الأنعام : ١٠٠ ) الآيات.
والمقصود من هذه : الامتنانُ وإبطالُ ما ينافي الامتنان ولذلك ذيّلت هذه بقوله :( كلوا من ثمره إذا أثمر ).
والكلام موجّه إلى المؤمنين والمشركين، لأنَّه اعتبار وامتنان، وللمؤمنين الحظّ العظيم من ذلك، ولذلك أعقب بالأمر بأداء حق الله في ذلك بقوله :( وآتوا حقه يوم حصاده ( إذ لا يصلح ذلك الخطاب للمشركين.
وتعريف المسند يفيد الاختصاص، أي هو الّذي أنشأ لا غيره، والمقصود من هذا الحصرِ إبطالُ أن يكون لغيره حظّ فيها، لإبطال ما جعلوه من الحرث والأنعام من نصيب أنصامهم مع أنّ الله أنشأه.
والإنشاءُ : الإيجاد والخلق، قال تعالى :( إنَّا أنشأناهنّ إنشاءً ( ( الواقعة : ٣٥ ) أي نساء الجنّة.
" صفحة رقم ١١٧ "
بشدائد الموْت عليهم في آيات كثيرة لأنهم كانوا يرهبونه. والرّسُل هم الملائكة قال تعالى : قل يتوفاكم ملك الموت ( ( السجدة : ١١ ) وقال ) ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة ( ( الأنفال : ٥٠ ).
وجملة :( يتوفونهم ( في موضع الحال من ) رُسلنا ( وهي حال معلِّلة لعاملها، كقوله :( ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم ( ( الأعراف : ٦١، ٦٢ ) أي رسول لأبلّغكم ولأنْصحَ لكم.
والتّوفي نزع الرّوح من الجسد، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى :( إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك في سورة آل عمران ( ٥٥ ) وهو المراد هنا، ولا جدوى في حمْلهِ على غير هذا المعنى، ممّا تردّد فيه المفسّرون، إلاّ أن المحافظة على معنى الغاية لحرف ( حتى ) فتوفي الرسل يجوز أن يكون المراد منه وقت أن يتوفوهم جميعاً، إن كان المراد بالنّصيب من الكتاب الاستئصال، أي حين تبعث طوائف الملائكة لإهلاك جميع أمّة الشّرك.
ويجوز أن يكون المراد حتى يتوفَّون آحادهم في أوقات متفرّقه إن كان المراد بالنّصيب من الكتاب وعيد العذاب، وعلى الوجهين فالقول محكي على وجه الجمععِ والمراد منه التّوزيع أي قال كلّ ملَك لمن وُكِّل بتوفّيهِ، على طريقة : رَكِبَ القومُ دَوَابَّهم. وقد حكي كلام الرّسل معهم وجوابهم إياهم بصيغة الماضي على طريقة المحاورة، لأنّ وجود ظرف المستقبل قرينة على المراد.
والاستفهام في قوله : أين ما كنتم تدعون من دون الله ( مستعمل في التّهكّم والتّأييس.
و ( مَا ) الواقعة بعد أين موصولة، يعني : أين آلهتكم التي كنتم تزعمون أنّهم ينفعونكم عند الشّدائد ويردّون عنكم العذاب فإنّهم لم يَحْضُروكم، وذلك حين يشهدون العذاب عند قبض أوراحهم، فقد جاء