" صفحة رقم ٣٠ "
لا ينصب بنفسه مفعولاً به لضعف شبهه بالفعل، بل إنّما يتعدّى إلى المفعول بالباء أو باللاّم أو بإلى، ونصبه المفعول نادر، وحقّه هنا أن يعدّى بالباء، فحذفت الباء ايجازَ حذف، تعويلا على القرينة. وإنَّما حذف الحرف من الجملة الأولى، وأظهر في الثّانية، دون العكس، مع أنّ شأن القرينة أن تتقدّم، لأنّ أفعل التّفضيل يضاف إلى جمععٍ يكون المفضّل واحداً منهم، نحو : هو أعلم العلماء وأكرم الأسخياء، فلمّا كان المنصُوباننِ فيهما غير ظاهر عليهما الإعراب، يلتبس المفعول بالمضاف إليه، وذلك غير ملتبس في الجملة الأولى، لأنّ الصّلة فيها دالّة على أنّ المراد أنّ الله أعلم بهم، فلا يتوهّم أن يكون المعنى : الله أعلم الضّالّين عن سبيله، أي أعلم عالممٍ منهم، إذ لا يخطر ببال سامع أن يقال : فلان أعلم الجاهلين، لأنّه كلام مُتناقض، فإنّ الضّلال جهالة، ففساد المعنى يكون قرينة على إرادة المعنى المستقيم، وذلك من أنواع القرينة الحاليَّة، بخلاف ما لو قال : وهو أعلم المهتدين، فقد يتوهّم السّامع أنّ المراد أنّ الله أعلم المهتدين، أي أقوى المهتدين علماً، لأنّ الاهتداء من العلم. هذا ما لاح لي في نكتة تجريد قوله :( هو أعلم من يضل عن سبيله ( من حرف الجرّ الّذي يتعدّى به ) أعلم ).
٨ ) ) فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ).
هذا تخلّص من محاجّة المشركين وبيان ضلالهم، المذيَّل بقوله :( إنّ ربّك هو أعلم من يضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ( ( الأنعام : ١١٧ ). انتقل الكلام من ذلك إلى تبيين شرائع هدى للمهتدين، وإبطاللِ شرائع شَرَعها المضلّون، تبيينا يزيل التّشابه والاختلاط. ولذلك خللت الأحكام المشروعة للمسلمين، بأضدادها الّتي كان شرعها المشركون وسلَفُهم.
وما تُشعر به الفاء من التفريع يقضي باتّصال هذه الجملة بالَّتي قبلها، ووجه ذلك : أنّ قوله تعالى :( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلّوك عن
" صفحة رقم ٣٠ "
ما تعارفه أهل اللّغة، فما جاء منها بصيغة المصدر غيرَ متعلّق بفعل يقتضي آلة فحمْلُه على المجاز المشهور كقوله تعالى :( فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً ( ( الكهف : ١٠٥ ). وما جاء منها على صيغة الاسماء فهو محتمل مثل ما هنا لقوله :( فمن ثقلت موازينه ( إلخ ومثل قول النّبيء ( ﷺ ) ( كلمتان خفيفتان على اللّسان ثقيلتان في الميزان ) وما تعلّق بفعل مقتض آلة فحمله على التمثيل أو على مخلوق من أمور الآخرة مثل قوله تعالى :( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ( ( الأنبياء : ٤٧ ). وقد ورد في السنّة ذكر الميزان في حديث البطاقة التي فيها كلمة شهادة الإسلام، عند التّرمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وحديث قول النّبيء ( ﷺ ) لأنس بن مالك :( فاطلبْني عند الميزان ) خرّجه التّرمذي.
وقد اختلف السلف في وجود مخلوق يبيّن مقدار الجزاء من العمل يسمّى بالميزان توزن فيه الأعمال حقيقة، فاثبت ذلك الجمهور ونفاه جماعة منهم الضحاك ومجاهد والأعمش، وقالوا : هو القضاء السوي، وقد تبع اختلافهم المتأخرون فذهب جمهور الأشاعرة وبعض المعتزلة إلى تفسير الجمهور، وذهب بعض الأشاعرة المتأخرين وجمهورُ المعتزلة إلى ما ذهب إليه مجاهد والضحاك والأعمش، والأمر هين، والاستدلال ليس ببيِّن والمقصود المعنى وليس المقصود آلته.
والإخبار عن الوزن بقوله :( الحق ( إن كان الوزن مجازاً عن تعيين مقادير الجزاء فالحق بمعنى العدل، أي الجزاء عادل غير جائز، لأنّه من أنواع القضاء والحكم، وإن كان الوزن تمثيلاً بهيئة الميزان، فالعدل بمعنى السوي، أي والوزن يومئذ مساوٍ للأعمال لا يرجح ولا يحجف.
وعلى الوجهين فالإخبار عنه بالمصدر مبالغة في كونه محقاً.
وتفرع على كونه الحق قوله :( فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون (، فهو تفصيل للوزن ببيان أثره على قدر الموزون. ومحل التّفريع هو قوله :( فأولئك هم المفلحون ( وقوله : فأولئك الذين خسروا أنفسهم إذ ذلك


الصفحة التالية
Icon