" صفحة رقم ٤١ "
تؤكل ذبيحة تارك التّسمية عمداً، إذا لم يتركها مستخِفاً. وقال عبد الله بن عمر، وابن سيرين، ونافِع، وأحمد بن حنبل، وداودُ : لا تؤكل إذا لم يسمّ عليها عَمْداً أو نسياناً، أخذاً بظاهر الآية، دون تأمّل في المقصد والسّياق.
وأرجح الأقوال : هو قول الشّافعي. والرّوايةُ الأخرى عن مالك، إنْ تعمّد ترك التّسميه تؤكل، وأنّ الآية لم يُقْصد منها إلاّ تحريم ما أهل به لغير الله بالقرائن الكثيرة التي ذكرناها آنفاً، وقد يكون تارك التّسمية عمداً آثماً، إلاّ أنّ إثمه لا يُبطل ذكاته، كالصّلاة في الأرض المغصوبة عند غير أحمد.
وجملة :( وإنه لفسق ( معطوفة على جملة ) ولا تأكلوا ( عطف الخبر على الإنشاء، على رأي المحقّقين في جوازه، وهو الحقّ، لا سيما إذا كان العطف بالواو، وقد أجاز عطف الخبر على الإنشاء بالواو بعض من منعه بغير الواو، وهو قول أبي عليّ الفارسي، واحتجّ بهذه الآية كما في ( مغنى اللّبيب ). وقد جعلها الرّازي وجماعة : حالاً ) مما لم يذكر اسم الله عليه ( بناء على منع عطف الخبر على الإنشاء.
والضّمير في قوله :( وإنه لفسق ( يعود على ) مما لم يذكر اسم الله عليه ( والإخبار عنه بالمصدر وهو ) فسق ( مبالغة في وصف الفعل، وهو ذكرُ اسم غير الله، بالفسق حتّى تجاوز الفسق صفة الفعل أن صار صفة المفعول فهو من المصدر المراد به اسم المفعول : كالخَلق بمعنى المخلوق، وهذا نظير جعله فسقاً في قوله بعدُ :( أو فسقاً أهِلّ لغير الله به ( ( الأنعام : ١٤٥ ). والتّأكيد بإنّ : لزيادة التّقرير، وجعل في ( الكشاف ) الضّمير عائداً إلى الأكل المأخوذ من ) ولا تأكلوا (، أي وإنّ أكْلَه لفسق.
وقوله :( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجدلوكم ( عطف على :( وإنه لفسق (، أي : واحذروا جَدَل أولياء الشّياطين في ذلك، والمراد
" صفحة رقم ٤١ "
للجنّ ليجعل منه صنفاً مُتَمِّيزاً عن بقيّة الملائكة بقبوله للمعصية، وهذا هو ظاهر القرآن، وإليه ذهب كثير من الفقهاء، وقد قال الله تعالى :( إلا إبليس كانَ من الجنّ ( ( الكهف : ٥٠ ) الآية، وإما لأنّ الجنّ نوع آخر من المجردات، وإبليس أصل ذلك النّوع، جعله الله في عداد الملائكة، فكان أمرهم شاملاً له بناء على أن الملائكة خلقوا من النّور وأنّ الجنّ خلقوا من النّار، وفي ( صحيح مسلم )، عن عائشة رضي الله عنها : أنّ رسول الله ( ﷺ ) قال :( خلقت الملائكة من نور وخُلق الجان من مارج من نار ) وإلى هذا ذهب المعتزله وبعض الأشاعرة، وقد يكون المراد من النّار نوراً مخلوطاً بالمادة، ويكون المراد بالنّور نوراً مجرداً، فيكون الجنّ نوعاً من جنس الملائكة أحطّ، كما كان الإنسان نوعاً من جنس الحيوان أرقى.
وفُصِل :( قال أنا خير منه ( لوقوعه على طريقة المحاورات.
وبَيّن مانعه من السّجود بأنّه رأى نفسه خيراً من آدم، فلم يمتثل لأمر الله تعالى إياه بالسّجود لآدم، وهذا معصية صريحة، وقوله :( أنا خير منه ( مسوق مساق التّعليل للامتناع ولذلك حذف منه اللام.
وجملة :( خلقتني من نار ( بيان لجملة :( أنا خير منه ( فلذلك فصلت، لأنّها بمنزلة عطف البيان من المبيّن.
وحصَل لإبليس العلم بكونه مخلوقاً من نار، بإخبار من الملائكة الذين شهدوا خلقَه، أو بإخبار من الله تعالى.
وكونه مخلوقاً من النّار ثابت قال تعالى :( خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار ( ( الرحمن : ١٤، ١٥ ) وإبليس من جنس الجنّ قال تعالى في سورة الكهف ( ٥٠ ) :( فسجدوا إلا إبليس كان من الجنّ ففسق عن أمر ربّه.
واستند في تفضيل نفسه إلى فضيلة العنصر الذي خلق منه على العنصر الذي خلق منه آدم.


الصفحة التالية
Icon