" صفحة رقم ٤٨ "
ومن أجل ذلك لم يزل الحكماء الأقدمون يبذلون الجهد في إيجاد المدينة الفاضلة الّتي وصفها ( أفلاطون ) في ( كتابه )، والّتي كادت أن تتحقّق صفاتها في مدينة ( أثينة ) في زمن جمهوريتها، ولكنّها ما تحقّقت بحقّ إلاّ في مدينة الرّسول ( ﷺ ) في زمانه وزمان الخلفاء الرّاشدين فيها.
وقد نبّه إلى هذا المعنى قوله تعالى :( وإذَا أردْنا أن نهلك قرية أمَّرْنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمرناها تدميراً ( ( الإسراء : ١٦ ) على قراءة تشديد ميم :( أمَّرنا ). والأظهر في نظم الآية : أنّ ) جعلنا ( بمعنى خلقنا وأوجدنا، وهو يتعدّى إلى مفعول واحد كقوله :( وجعل الظّلمات والنّور ( ( الأنعام : ١ ) فمفعوله :( أكابر مجرميها ).
وقوله :( في كل قرية ( ظرف لغو متعلّق ب ) جعلنا ( وإنَّما قدّم على المفعول مع أنّه دونه في التعلّق بالفعل، لأنّ كون ذلك من شأن جميع القرى هو الأهمّ في هذا الخبر، ليَعلم أهل مكّة أنّ حالهم جرى على سُنن أهل القرى المرسل إليها.
وفي قوله :( أكبر مجرميها ( إيجاز لأنَّه أغنى عن أن يقول جعلنا مُجرمين وأكابر لهم وأن أولياء الشياطين أكابر مجرمي أهل مكة، وقوله :( ليمكروا ( متعلّق ب ) جعلنا ( أي ليحصُل المكر، وفيه على هذا الاحتمال تنبيه على أنّ مكرهم ليس بعظيم الشأن.
ويحتمل أن يكون ) جعلنا ( بمعنى صيّرنا فيتعدّى إلى مفعولين هما :( أكبر مجرميها ( على أنّ ) مجرميها ( المفعول الأوّل، و ) أكابر ( مفعول ثان، أي جعلنا مجرميها أكابر، وقدم المفعول الثّاني للاهتمام به لغرابة شأنه، لأنّ مصير المجرمين أكابر وسادة أمر عجيب، إذ ليسوا بأهل للسؤدد، كما قال طفيل الغنوي :
" صفحة رقم ٤٨ "
والضّمير في ) لهم ( ضمير الإنس الذين دلّ عليهم مقام المحاورة، التي اختصرت هنا اختصاراً دعا إليه الاقتصار على المقصود منها، وهو الامتنان بنعمة الخلق، والتّحذير من كيد عدوّ الجنس، فتفصيل المحاورة مشعر بأنّ الله لمّا خلق آدم خاطب أهل الملإ الأعلى بأنّه خلقه ليَعْمر به وبنسله الأرضَ، كما أنبأ بذلك قوله تعالى :( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ( ( البقرة : ٣٠ ) فالأرض مخلوقة يومئذ، وخلق الله آدم ليعمرها بذريته وعلم إبليس ذلك من إخبار الله تعالى الملائكةَ فحكى الله من كلامه ما به الحاجة هنا : وهو قوله :( لأقعدن لهم صراطك المستقيم ( الآية وقد دلّت آية سورة الْحِجْر على أنّ إبليس ذكر في محاورته ما دلّ على أنّه يريد إغواءَ أهل الأرض في قوله تعالى :( قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلَصين ( ( الحجر : ٣٩، ٤٠ ) فإن كان آدم قد خلق في الجنّة في السّماء ثمّ أهبط إلى الأرض فإن علم إبليس بأنّ آدم يصير إلى الأرض قد حصل من إخبار الله تعالى بأن يجعله في الأرض خليفة، فعلم أنّه صائر إلى الأرض بعد حين، وإن كان آدم قد خُلق في جنّة من جنّات الأرض فالأمر ظاهر، وتقدّم ذلك في سورة البقرة.
وهذا الكلام يدلّ على أنّ إبليس عَلِم أنّ الله خلق البشر للصّلاح والنّفععِ، وأنّه أودع فيهم معرفة الكمال، وأعانهم على بلوغه بالإرشاد، فلذلك سُمِّيت أعمال الخير، في حكاية كلام إبليس، صراطاً مستقيماً، وإضافه إلى ضمير الجلالة، لأنّ الله دعا إليه وارد من النّاس سلوكه، ولذلك أيضاً ألزم ) لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لأتيناهم من بين أيديهم ومن خلفهم ).
وبهذا الاعتبار كان إبليس عدواً لبني آدم، لأنّه يطلب منهم ما لم يُخلقوا لأجله وما هو مناففٍ للفطرة التي فطر الله عليها البشر، فالعداوة متأصّلة وجبليّة بين طبع الشّيطان وفطرة الإنسان السّالمة من التّغيير، وذلك ما أفصح عنه الجَعل الإلهي المشار إليه بقوله :( بعضكم لبعض عدو ( ( البقرة : ٣٦ )،


الصفحة التالية
Icon