" صفحة رقم ٥٠ "
ولقصد تسلية الرّسول ( ﷺ ) بأنَّه ليس ببدع من الرّسل في تكذيب قومه إيَّاه ومكرهم به ووعده بالنّصر.
وقوله :( أكبر مجرميها ( أكابر جمع أكبر. وأكبر اسم لعظيم القوم وسيّدهم، يقال : ورثوا المجد أكْبَر أكْبَر، فليست صيغة أفعل فيه مفيدة الزّيادة في الكبر لا في السِنّ ولا في الجسم، فصار بمنزلة الاسم غير المشتقّ، ولذلك جمع إذا أخبر به عن جمع أو وُصف به الجمع ولو كان معتبراً بمنزلة الاسم المشتقّ لكان حقّه أن يلزم الإفراد والتّذكير. وجمع على أكابر، يقال : ملوك أكابر، فوزن أكابر في الجمع فَعالل مثل أفاضل جمع أفضل، وأيامِنَ وأشَائِمَ جمع أيَمن وأشأم للطّير السوانح في عرف أهل الزجر والعيافة.
وأعلم أنّ اصطلاح النّحاة في موازين الجموع في باب التّكسير وفي باب ما لا ينصرف أن ينظروا إلى صورة الكلمة من غير نظر إلى الحروف الأصليّة والزائدة بخلاف اصطلاح علماء الصّرف في باب المُجرّد والمزيد. فهمزة أكبر تعتبر في الجمع كالأصلي وهي مزيدة.
وفي قوله :( أكبر مجرميها ( إيجاز لأنّ المعنى جعلنا في كلّ قرية مجرمين وجعلنا لهم أكابر فلمّا كان وجود أكابر يقتضي وجود من دونهم استغنى بذكر أكابر المجرمين.
والمكر : إيقاع الضرّ بالغير خُفية وتحيُّلاً، وهو من الخداع ومن المذام، ولا يغتفر إلاّ في الحرب، ويغتفر في السّياسة إذا لم يمكن اتّقاء الضرّ إلاّ به، وأمّا إسناده إلى الله في قوله تعالى :( ومكرَ الله واللَّهُ خير الماكرين ( ( آل عمران : ٥٤ ) فهو من المشاكلة لأنّ قبلهُ ) ومكروا ( ( آل عمران : ٥٤ )، أي مكروا بأهل الله ورسله. والمراد بالمكر هنا تحيّل زعماء المشركين على النّاس في صرفهم عن النّبيء ( ﷺ ) وعن متابعة الإسلام، قال مجاهد : كانوا جلسوا على كلّ عقبة ينفّرون النّاس عن اتّباع النّبيء ( ﷺ )
" صفحة رقم ٥٠ "
وجود ( مِن ) كالعدم، وقد قال الحريري في ( المقامة النّحويّة ) ( مَا منصوبٌ على الظرف لا يَخفِضه سوى حرف :( فهي هنا زائدة ويجوز اعتبارها ابتدائيّة.
والأيمان جمع يمين، واليمين هنا جانب من جسم الإنسان يكون من جهة القطب الجنوبي إذا استقبل المرء مشرق الشّمس، تعارفه النّاس، فشاعت معرفته ولا يشعرون بتطبيق الضّابط الذي ذكرناه، فاليمين جهة يتعرّف بها مواقع الأعضاء من البدَن يقال العَيْن اليمنى واليد اليُمنى ونحو ذلك. وتتعرّف بها مواقع من غيرها قال تعالى :( قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين ( ( الصافات : ٢٨ ). وقال امرؤ القيس :
عَلَى قَطَننٍ بالشَّيْممِ أيْمَنُ صَوبه
لذلك قال أيمّة اللّغة سمّيت بلاد اليَمَن يَمَناً لأنّه عن يمين الكعبة، فاعتبروا الكعبة كشخص مستقبِللٍ مشرق الشّمس فالرّكن اليماني منها وهو زاوية الجدار الذي فيه الحجر الأسود باعتبار اليد اليمنى من الإنسان، ولا يدري أصل اشتقاق كلمة ( يَمِين )، ولا أن اليُمْن أصل لها أو فرع عنها، والأيمان جمع قياسي.
والشّمائلُ جمع شِمَال وهي الجهة التي تكون شِمَالاً لمستقبللِ مشرِق الشّمس، وهو جمع على غير قياس.
وقوله :( ولا تجد أكثرهم شاكرين ( زيادة في بيان قوّة إضلاله بحيث لا يفلت من الوقوع في حبائله إلاّ القليل من النّاس، وقد عَلِم ذلك بعلم الحدس وترتيب المسبّبات.
وكني بنفي الشّكر عن الكفر إذ لا واسطة بينهما كما قال تعالى :( واشكروا لي ولا تكفرون ( ( البقرة : ١٥٢ ) ووجهُ هذه الكناية، إن كانت محكيّة كما صدرت من كلام إبليس، أنّه أراد الأدب مع الله تعالى فلم يصرّح بين يديه بكفر أتباعه المقتضي أنّه يأمرهم بالكفر، وإن كانت من كلام الله