" صفحة رقم ٦٦ "
لمّا ذكر ثواب القوم الّذين يتذّكرون بالآيات، وهو ثواب دار السّلام، ناسب أن يعطف عليه ذكر جزاء الّذين لا يتذكّرون، وهو جزاء الآخرة أيضاً، فجملة :( ويوم يحشرهم ( إلخ معطوفة على جملة :( لهم دار السّلام عند ربّهم ( ( الأنعام : ١٢٧ ). والمعنى : وللآخرين النّار مثواهم خالدين فيها. وقد صُوّر هذا الخبر في صورة ما يقع في حسابهم يوم الحشر، ثمّ أُفضي إلى غاية ذلك الحساب، وهو خلودهم في النّار.
وانتصب :( يومَ ( على المفعول به لفعل محذوف تقديره : اذْكُر، على طريقة نظائره في القرآن، أو انتصب على الظرفيّة لفعل القول المقدّر.
والضّمير المنصوب ب ) نحشرهم ( عائد إلى ) الذين أجرموا ( ( الأنعام : ١٢٤ ) المذكور في قوله :( سيصيب الذين آجرموا صغار عند الله، أو إلى الذين لا يؤمنون ( ( الأنعام : ١٢٥ ) في قوله :( كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ). وهؤلاء هم مقابل الّذين يتذكّرون، فإنّ جماعة المسلمين يُعتَبرون مخاطبين لأنّهم فريق واحد مع الرّسول عليه الصّلاة والسّلام ويعتبر المشركون فريقاً مبائناً لهم بعيداً عنهم، فيتحدّث عنهم بضمير الغيبة، فالمراد المشركون الّذين ماتوا على الشّرك وأُكّد ب ) جميعاً ( ليعمّ كلّ المشركين، وسادتهم، وشياطينهم، وسائر عُلَقهم.
ويجوز أن يعود الضّمير إلى الشّياطين وأوليائهم في قوله تعالى :( وإنّ الشّياطين ليوحون إلى أوليائهم ( ( الأنعام : ١٢١ ) إلخ.
وقرأ الجمهور :( نحشرهم ( بنون العظمة على الالتفات. وقرأه حفص عن عاصم، ورَوْح عن يعقوب بياء الغيبة ولمّا أسند الحشر إلى ضمير الجلالة تعيّن أنّ النداء في قوله :( يا معشر الجن ( من قِبل الله تعالى، فتعيّن لذلك إضمار قول صادر من المتكلّم، أي نقول : يا معشر الجنّ، لأنّ النّداء لا يكون إلاّ قولاً.
" صفحة رقم ٦٦ "
وهو مجاز مشهور في الكلام الذي يراد به طلب إقبال أحد إليك، وله حروف معروفة في العربيّة : تدلّ على طلب الإقبال، وقد شاع إطلاق النّداء على هذا حتّى صار من الحقيقة، وتفرّع عنه طلب الإصغاء وإقبال الذّهن من القريب منك، وهو إقبال مجازي.
) وناداهما ربهما ( مستعملٌ في المعنى المشهور : وهو طلب الإقبال، على أنّ الإقبال مجازي لا محالة فيكون كقوله تعالى :( وزكرياء إذا نادى ربه ( ( الأنبياء : ٨٩ ) وهو كثير في الكلام.
ويجوز أن يكون مستعملاً في الكلام بصوت مرتفع كقوله تعالى :( كمَثَل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً ( ( البقرة : ١٧١ ) وقوله :( ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها ( ( الأعراف : ٤٣ ) وقول بشّار :
نَادَيْت إنّ الحبّ أشْعَرني
قَتْلاً وما أحدثتُ من ذَنْب
ورفع الصّوت يكون لأغراض، ومحمله هنا على أنّه صوت غضب وتوبيخ.
وظاهر إسناد النّداء إلى الله أنّ الله ناداهما بكلام بدون واسطة مَلك مرسل، مثللِ الكلام الذي كلّم الله به موسى، وهذا واقع قبل الهبوط إلى الأرض، فلا ينافي ما ورد من أن موسى هو أوّل نبيء كلّمه الله تعالى بلا واسطة، ويجوز أن يكون نداءُ آدم بواسطة أحد الملائكة.
وجملة :( ألم أنهاكما ( في موضع البيان لجملة ( ناداهما )، ولهذا فصلت الجملة عن التي قبلها.
والاستفهام في ) ألم أنهاكما ( للتّقرير والتّوبيخ، وأُولِيَ حرفَ النّفي زيادة في التّقرير، لأنّ نهي الله إياهما واقع فانتفاؤه منتفا، فإذا أدخلت أداة التّقرير وأقرّ المقرَّر بضد النّفي كان إقرارُه أقوى في المؤاخذة بموجَبه، لأنّه قد هُييء له سبيل الإنكار، لو كان يستطيع إنكاراً، كما تقدّم عند قوله تعالى :( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم الآية في سورة الأنعام ( ١٣٠ )، ولذلك اعترفا بأنّهما ظلما أنفسهما.


الصفحة التالية
Icon