" صفحة رقم ٧٠ "
وقوله :( وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا ( استسلام لله، أي : انقضَى زمن الإمهال، وبلغْنا الأجلَ الذي أجلَّت لنا للوقوع في قبضتك، فسُدّت الآن دوننا المسالكُ فلا نجد مفرّاً. وفي الكلام تحسّر وندامة. عند ظهور عدم إغناء أوليائهم عنهم شيئاً، وانقضاء زمن طغيانهم وعتوّهم، ومَحين حِين أن يَلْقَوا جزاء أعمالهم كقوله :( ووجد الله عنده فوفّاه حسابه ( ( النور : ٣٩ ).
وقد أفادت الآية : أنّ الجنّ المخاطبين قد أُفحموا، فلم يجدوا جواباً، فتركوا أولياءهم يناضلون عنهم، وذلك مظهر من مظاهر عدم إغناء المتبوعين عن أتباعهم يومئذٍ ) إذ تَبرّأ الذين اتُّبِعوا من الذين اتَّبَعوا ( ( البقرة : ١٦٦ ).
وجملة :( قال النار مثواكم ( فصلت عن الّتي قبلها على طريقة القول في المحاورة، كما تقدّم عند قوله تعالى :( قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها في سورة البقرة ( ٣٠ ).
وضمير الخطاب في قوله : النار مثواكم ( موجَّه إلى الإنس فإنَّهم المقصود من الآية، كما في قوله تعالى :( بل كانوا يعبدون الجنّ أكثرهم بهم مؤمنون فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفاً ولا ضراً ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النّار التي كنتم بها تكذّبون ( ( سبأ : ٤١، ٤٢ ) وقوله :( وتمَّت كلمة ربّك لأملأن جهنّم من الجِنّة والنّاسسِ أجمعين ( ( هود : ١١٩ ).
ومجيء القول بصيغة الماضي : للتّنبيه على تحقيق وقوعه وهو مستقبل بقرينة قوله :( يحشرهم ( كما تقدّم. وإسناده إلى الغائب نظرٌ لما وقع في كلام الأولياء :( ربنا استمتع ( إلخ.
والمثوى : اسم مكان من ثَوى بالمكان إذا أقام به إقامةَ سكنى أو إطالة مكث، وقد بيّن الثّواء بالخلود بقوله :( حالدين فيها ).
وقوله :( حالدين فيها ( هو من تمام ما يقال لهم في الحشر لا محالة، لأنَّه منصوب على الحال من ضمير مثواكم، فلا بدّ أن يتعلّق بما قبله.
" صفحة رقم ٧٠ "
عنه، فإنّه قال في قوله تعالى الآتي في هذه السّورة ( ١٤٠ ) :( قال أغير الله أبغيكم إلهاً بعد قوله : قال إنكم قوم تجهلون ( ( الأعراف : ١٣٨ ) إذ جعل وجه إعادة لفظ قال هو ما بين المقالين من البَوْن، فالأوّل راجع إلى مجرد الإخبار ببطلان عبادة الأصنام في ذاته، والثاني إلى الاستدلال على بطلانه، وقد ذكر معناه الخفاجي عند الكلام على الآية الآتِيَة بعد هذه، ولم ينسبه إلى ابن عرفة فلعلّه من توارد الخواطر ؛ وقال أبو السّعود : إعادة القول إمّا لإظهار الاعتناء بمضمون ما بعده، وهو قوله :( فيها تحيون ( ( الأعراف : ٢٥ ) وإما للإيذان بكلام محذوف بين القولين كما في قوله تعالى :( قال فما خطبكم ( ( الحجر : ٥٧ ) إثر قوله ) قال ومن يقنط من رحمة ربه ( ( الحجر : ٥٦ ) فإن الخليل خاطب الملائكة أوّلاً بغير عنوان كونهم مرسلين، ثمّ خاطبهم بعنوان كونهم مرسلين عند تبين أنّ مجيئهم ليس لمجرّد البشارة، فلذلك قال :( فما خطبكم، وكما في قوله تعالى : أرايتك هذا الذي كرمت علي ( ( الإسراء : ٦٢ ) بعد قوله ) قال أأسجد لِمَنْ خلقت طيناً ( ( الإسراء : ٦١ ) فإنّه قال قوله الثّاني بعد الإنظار المترتّب على استنظاره الذي لم يصرّح به اكتفاء بما ذكر في مواضع أخرى، هذا حاصل كلامه في مواضع، والتّوجيه الثّاني مردود إذ لا يلزم في حكاية الأقوال الإحاطة ولا الاتّصال.
والذي أراه أنّ هذا ليس أسلوباً في حكاية القول يتخيّر فيه البليغ، وأنّه مساو للعطف بثمّ، وللجمع بين حرف العطف وإعادة فعل القول، كما في قوله تعالى :( وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل ( ( الأعراف : ٣٩ ) بعد قوله ) قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا ( ( الأعراف : ٣٨ )، فإذا لم يكن كذلك كان توجيه إعادة فعل القول، وكونه مستأنفاً : أنّه استئناف ابتدائي للاهتمام بالخبَر، إيذاناً بتغيّر الخطاب بأن يكون بين الخطابين تخالُفٌ مَّا، فالمخاطب بالأوّل آدم وزوجه والشّيطان، والمخاطب بالثّاني آدم وزوجه وأبناؤهما، فإن كان هذا الخطاب قبل حدوث الذرّية لهما كما هو ظاهر السّياق فهو خطاب لهما بإشعارهما أنّهما أبوا خلق كثير :


الصفحة التالية
Icon