" صفحة رقم ٧٧ "
فضعف قول من قال بوُجود رسل من الجنّ إلى جنسهم، ونُسب إلى الضحاك، ولذلك فقوله :( ألم يأتيكم ( مصروف عن ظاهره من شموله الإنس والجنّ، ولم يرد عن النّبيء ( ﷺ ) ما يثبت به أنّ الله أرسل رسلاً من الجنّ إلى جنسهم، ويجوز أن يكون رسل الجنّ طوائف منهم يستمعون إلى الأنبياء ويفهمون ما يَدْعون إليه ويبلّغون ذلك إلى أقوامهم، كما تقتضيه الآية في سورة الأحقاف ؛ فمؤاخذة الجنّ على الإشراك بالله يقتضيها بلوغ توحيد الله إلى علمهم لأنّ أدلّة الوحدانيّة عقليّة لا تحتاج إلاّ إلى ما يُحرّك النّظر. فلمّا خلق الله للجنّ علماً بما تجيء به رسل الله من الدّعاء إلى النّظر في التّوحيد فقد توجَّهت عليهم المؤاخذة بترك الإيمان بوحدانيّة الله تعالى فاستحقّوا العذاب على الإشراك دون توقف على توجيه الرّسل دعوتهم إليهم.
ومن حسن عبارات أيمّتنا أنَّهم يقولون : الإيمان واجب على مَن بلَغَتْه الدّعوة، دون أن يقولوا : على مَن وُجّهت إليه الدّعوة. وطرق بلوغ الدّعوة عديدة، ولم يثبت في القرآن ولا في صحيح الآثار أنّ النّبيء محمّداً ( ﷺ ) ولا غيرَه من الرّسل، بُعث إلى الجنّ لانتفاء الحكمة من ذلك، ولعدم المناسبة بين الجنسين، وتعذّر تخالطهما، وعن الكلبي أنّ محمّداً ( ﷺ ) بعث إلى الإنس والجنّ، وقاله ابن حزم، واختاره أبو عُمر ابن عبد البرّ، وحكَى الاتِّفاق عليه : فيكون من خصائص النّبيء محمّد ( ﷺ ) تشريفاً لقدره. والخوض في هذا ينبغي للعالم أن يربأ بنفسه عنه لأنَّه خوض في أحوال عالَم لا يدخل تحت مُدْرَكاتنا، فإنّ الله أنبأنا بأنّ العوالم كلّها خاضعة لسلطانه. حقيق عليها طاعته، إذا كانت مدركة صالحة للتكليف.
والمقصود من الآية الّتي نتكلّم عليها إعلامُ المشركين بأنَّهم مأمورون بالتّوحيد والإسلام وأنّ أولياءهم من شياطين الإنس والجن غير مفلتين من المؤاخذة على نبذ الإسلام. بلْهَ أتْباعهم ودهمائهم. فذكر الجنّ مع الإنس في قوله :( يا معشر الجن والإنس ( يوم القيامة لتبكيت المشركين وتحْسيرهم على ما فرط منهم في الدّنيا من عبادة الجنّ أو الالتجاءِ إليهم،
" صفحة رقم ٧٧ "
وقد نهوا عن أن يفتنهم الشّيطان، وفتون الشّيطان حصول آثار وسوسته، أي لا تمكّنوا الشّيطان من أن يفتنكم، والمعنى النّهي عن طاعته، وهذا من مبالغة النّهي، ومنه قول العرب لاَ أعْرِفَنَّك تفعل كذا : أي لا تَفْعَلَن فأعْرِفَ فعلك، لا أرَيَنَّكَ هنا : أي لا تحضرن هنا فأراك، فالمعنى لا تطيعوا الشّيطان في فتْنِهِ فيفتنَكم ومثل هذا كناية عن النّهي عن فعل والنّهي عن التّعرّض لأسبابه.
وشُبّه الفتون الصّادر من الشّيطان للنّاس بِفَتنِهِ آدمَ وزوجَه إذْ أقدمهما على الأكل من الشجّرة المنهي عنه، فأخرجهما من نعيم كانا فيه، تذكيراً للبشر بأعظم فتنة فتن الشّيطان بها نوعهم، وشملتْ كلّ أحد من النّوع، إذ حُرم من النّعيم الذي كان يتحقق له لو بقي أبواه في الجنّة وتناسلا فيها، وفي ذلك أيضاً تذكير بأنّ عداوة البشر للشّيطان موروثة، فيكون أبعث لهم على الحذر من كيده.
و ( ما ) في قوله :( كما أخرج ( مصدريّة، والجار والمجرور في موضع الصّفة لمصدر محذوف هو مفعول مطلق ليفتننّكم، والتّقدير : فُتوناً كإخراجه أبويكم من الجنّة، فإنّ إخراجه إياهما من الجنّة فتون عظيم يشبه به فتون الشّيطان حين يراد تقريب معناه للبشر وتخويفهم منه.
والأبوان تثنية الأب، والمراد بهما الأبُ والأمّ على التّغليب، وهو تغليب شائع في الكلام وتقدّم عند قوله تعالى :( ولأبويه في سورة النّساء ( ١١ ). وأطلق الأب هنا عن الجدّ لأنّه أب أعلى، كما في قول النبي : أنا ابن عبدِ المطّلب.
وجملة : ينزع عنهما لباسهما ( في موضع الحال المقارنة من الضّمير المستتر في :( أخرج ( أو من :( أبويكم ( والمقصود من هذه الحال تفظيع هيئة الإخراج بكونها حاصلة في حال انكشاف سَوْآتهما لأنّ انكشاف السوءة