" صفحة رقم ٨٣ "
احتراس على قوله :( ذلك أن لم يكن ربّك مهلك القرى بظلم ( ( الأنعام : ١٣١ ) للتنبيه على أنّ الصّالحين من أهل القرى الغالببِ على أهلها الشركُ والظّلم لا يُحرمون جزاء صلاحهم.
والتّنوين في :( ولكل ( عوض عن المضاف إليه : أي ولكلّهم، أي كلّ أهل القرى المهلَكة درجات. يعني أنّ أهلها تتفاوت أحوالهم في الآخرة. فالمؤمنون منهم لا يضاع إيمانهم. والكافرون يحشرون إلى العذاب في الآخرة. بعد أن عُذّبوا في الدّنيا. فالله قد ينجي المؤمنين من أهل القُرى قبل نزول العذاب. فتلك درجة نالوها في الدّنيا، وهي درجة إظهار عناية الله بهم، وتُرفع درجتهم في الآخرة. والكافرون يحيق بهم عذاب الإهلاك ثمّ يصيرون إلى عذاب الآخرة. وقد تهلك القرية بمؤمنيها ثمّ يصيرون إلى النّعيم فيظهر تفاوت درجاتهم في الآخرة، وهذه حالة أخرى وهي المراد بقوله تعالى :( واتَّقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصّة ( ( الأنفال : ٢٥ ) روى البخاري، ومسلم، عن ابن عمر، قال رسول الله ( ﷺ ) ( إذَا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذابُ من كان فيهم ثمّ بُعثوا على أعمالهم ). وفي حديث عائشة رضي الله عنها عند البيهقي في ( الشُعب ) مرفوعاً أنّ الله تعالى إذا أنزل سطوته بأهللِ نقمته وفيهم الصّالحون قُبضوا معهم ثمّ بُعثوا على نياتهم وأعمالهم، صحّحه ابن حِبّان. وفي ( صحيح البخاري )، من حديث زينب بنت جحش أمّ المؤمنين رضي الله عنها قالت : قال رسول الله ( ﷺ ) ( ويلٌ للعرب من شرّ قد اقترب فتح اليوم من رَدْم ياجوج وماجوج هكذا وعقد تسعين ( أي عقد أصبعين بعلامة تسعين في الحساب المعبر عنه بالعُقَد بضم العين وفتح القاف ) قِيل : أنهلك وفينا الصّالحون، قال : نَعَم إذا كثر الخُبْث ).
والدّرجات هي ما يرتقى عليه من أسفل إلى أعلى، في سُلم أو بناء، وإن قصد بها النّزول إلى محلّ منخفض من جبّ أو نحوه فهي دركات،
" صفحة رقم ٨٣ "
لأنفسهم واعتذروا لآبائهم، فمعنى قولهم :( والله أمرنا بها ( ليسَ ادّعاءَ بلوغ أمر من الله إليهم ولكنّهم أرادوا أنّ الله أمر آباءهم الذين رسموا تلك الرّسوم وسنّوها فكان أمرُ الله آباءَهم أمراً لهم، لأنّه أراد بقاء ذلك في ذريّاتهم، فهذا معنى استدلالهم، وقد أجمله إيجاز القرآن اعتماداً على فطنة المخاطبين.
وأسند الفعل والقول إلى ضمير الذين لا يؤمنون في قوله :( وإذا فعلوا فاحشة قالوا ( : على معنى الإسناد إلى ضمير المجموع، وقد يكون القائل غير الفاعل، والفاعل غير قائل، اعتداداً بأنّهم لما صَدّق بعضهم بعضاً في ذلك فكأنّهم فعلوه كلّهم واعتذروا عنه كلّهم.
وأفاد الشّرط رَبْطاً بين فعلهم الفاحشة وقولهم :( وجدنا عليها آباءنا ( باعتبا إيجاز في الكلام يدلّ عليه السّياق، إذ المفهوم أنّهم إذا فعلوا فاحشة فأنكِرَتْ عليهم أو نُهوا عنها قالوا وجدنا عليها آباءنا، وليس المراد بالإنكار والنّهي خصوص نهي الإسلام إياهم عن ضلالهم، ولكن المراد نهيُ أيّ ناه وإنكارُ أيّ منكر، فقد كان ينكر عليهم الفواحش من لا يوافقونهم عليها من القبائل، فإنّ دين المشركين كان أشتاتاً مختلفاً، وكان ينكر عليهم ذلك من خلعوا الشّرك من العرب مثل زيد بن عمرو بن نفيل، وأمّيةَ ابن أبي الصَّلْت، وقد قال لهم زيد بن عمرو :( إنّ الله خلق الشّاة وأنزل لها الماء من السّماء وأنبت لها العشب ثمّ أنتم تذبحونها لغيره ) وكان ينكر عليهم من يتحَرج من أفعالهم ثمّ لا يسعه إلاّ اتّباعهم فيها إكراهاً.
وكان ينكر عليهم من لا توافق أعمالُهم هواه : كما وقع لامرىء القيس، حيث عزم على قتال بني أسد بعد قتلهم أباه حُجْراً، فقصد ذا الخَلَصة صنمَ خَثْعَمَ واستقسم عنده بالأزلام فخرج له النّاهي فكسر الأزلام وقال :
لو كنتَ يا ذا الخَلَص الموتورا
مِثْلي وكان شيخُك المقبورا
لَمْ تنهَ عن قتل العُداة زُوراً