" صفحة رقم ٨٥ "
( هذه الآية مكررة
) وَرَبُّكَ الْغَنِىُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ ). )
عُطفْت جملة :( وربك الغني ( على جملة :( وما ربُّك بغافل عمّا يعملون ( ( الأنعام : ١٣٢ ) إخباراً عن علمه ورحمته على الخبر عن عمله، وفي كلتا الجملتين وعيد ووعد، وفي الجملة الثّانية كناية عن غناه تعالى عن إيمان المشركين وموالاتهم كما في قوله :( إن تكفروا فإنّ الله غنيّ عنكم ( ( الزمر : ٧ )، وكناية عن رحمته إذْ أمهل المشركين ولم يعجّل لهم العذاب، كما قال :( وربُّك الغفور ذو الرّحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجّل لهم العذاب في سورة الكهف ( ٥٨ ).
وقوله : وربك ( إظهار، في مقام الإضمار، ومقتضى الظاهر أن يقال : وهو الغنيّ ذو الرّحمة، فخولف مقتضى الظاهر لما في اسم الربّ من دلالة على العناية بصلاح المربوب، ولتكون الجملة مستقلّة بنفسها فتسير مسرى الأمثال والحِكَم، وللتنويه بشأن النبي ( ﷺ )
والغنيّ : هو الّذي لا يحتاج إلى غيره، والغنيّ الحقيقي هو الله تعالى لأنَّه لا يحتاج إلى غيره بحال، وقد قال علماء الكلام : إنّ صفة الغِنَى الثّابتة لله تعالى يَشمل معناها وجوب الوجود، لأنّ افتقار الممكن إلى الموجد المختارِ، الّذي يرجح طَرف وجوده على طرف عدمه، هو أشدّ الافتقار، وأحسب أنّ معنى الغِنى لا يثبت في اللّغة للشّيء إلاّ باعتبار أنّه موجود فلا يشمل معْنى الغنى صفة الوجود في متعارف اللّغة. إلاّ أن يكون ذلك اصطلاحاً للمتكلّمين خاصّاً بمعنى الغِنى المطلق. وممّا يدلّ على ما قُلتهُ أنّ من أسمائه تعالى المغني، ولم يُعتبر في معناه أنَّه موجد الموجودات. وتقدّم الكلام على معنى الغنيّ عند قوله تعالى :( إن يكن غنياً أو فقيراً في سورة النّساء ( ١٣٥ ).
وتعريف المسند باللاّم مقتض تخصيصه بالمسند إليه، أي قصر الغنى على الله، وهو قصرٌ ادّعائي باعتبار أنّ غنى غير الله تعالى لمّا كان غنى ناقصاً نُزّل منزلة العدم، أي ربّك الغنيّ لا غيره، وغناه تعالى حقيقي. وذكر وصف الغنيّ هنا تمهيد للحكم الوارد عقبه، وهو : إن يشأ يذهبكم ( فهو من تقديم الدّليل بين يدي الدّعوى، تذكيراً بتقريب حصول الجزم بالدّعوى.
" صفحة رقم ٨٥ "
عن مجرّد التّوهّم، ولأنّهم لم يعلموا أنّ الله لا يليق بجلاله وكماله أن يأمر بمثل تلك الرّذائل.
وضمن :( تقولون ( معنى تكذيون أو معنى تتقَوّلون، فلذلك عُدّي بعَلى، وكان حقّه أن يعدى بعَنْ لو كان قولاً صحيح النّسبة، وإذ كان التّوبيخ وارداً على أن يقولوا على الله ما لا يعلمون كان القول على الله بما يُتحقّق عدمُ وروده من الله أحرى.
وبهذا الرد تمحض عملهم تلك الفواحش للضّلال والغرور واتّباع وحي الشّياطين إلى أوليائهم أيمّة الكفر، وقادة الشّرك : مثل عَمْرو بن لُحَي، الذي وَضَعَ عبادة الأصنام، ومثل أبي كَبشة، الذي سنّ عبادة الشّعري من الكواكب، ومثل ظالم بن أسْعد، الذي وضع عبادة العُزى، ومثل القلَمَّسسِ، الذي سنّ النَّسيء إلى ما اتّصل بذلك من موضوعات سدنة الأصنام وبيوتتِ الشّرك.
واعلم أن ليس في الآية مستند لإبطال التّقليد في الأمور الفرعيّة أو الأصول الدّينيّة لأنّ التّقليد الذي نعاه الله على المشركين هو تقليدهم مَن ليسوا أهلاً لأنّ يقلَّدوا، لأنّهم لا يرتفعون عن رتبة مقلِّديهم، إلاّ بأنّهم أقدم جيلاً، وأنّهم آباؤهم، فإنّ المشركين لم يعتذروا بأنّهم وجدوا عليه الصّالحين وهداة الأمّة، ولا بأنّه ممّا كان عليه إبراهيم وأبناؤه، ولأنّ التّقليد الذي نعاه الله عليهم تقليد في أعمال بديهيّة الفساد، والتّقليد في الفساد يستوي، هو وتسنينه، في الذّم، على أنّ تسنين الفساد أشدّ مذمّة من التّقليد فيه كما أنبأ عنه الحديث الصّحيح :( مَا من نفس تُقتل ظُلماً إلاّ كان على ابننِ آدم الأوللِ كِفْل من دمها ذلك لأنّه أوّلُ من سَنّ القتل ) وحديث :( مَن سَنّ سُنّة سَيِّئة فعليه وزرها ووزر من عَمِل بها إلى يوم القيامة ).
فما فرضه الذين ينزعون إلى علم الكلام من المفسّرين في هذه الآية من القول في ذمّ التّقليد ناظر إلى اعتبار الإشراك داخلاً في فعل الفواحش.