" صفحة رقم ٣١٧ "
فعلى عقلاء الأقوام وأصحاب الأحلام منهم إذا رأوا دبيب الفساد في عامتهم أن يبادروا للسعي إلى بيان ما حل بالناس من الضلال في نفوسهم، وأن يكشفوا لهم ماهيته وشبهته وعواقبه، وأن يمنعوهم منه بما أوتوه من الموعظة والسلطان، ويزجروا المفسدين عن ذلك الفساد حتى يرتدعوا، فإن هم تركوا ذلك، وتوانوا فيه لم يلبث الفساد أن يسري في النفوس وينتقل بالعدوى من واحد إلى غيره، حتى يعم أو يكاد، فيعسر اقتلاعه من النفوس، وذلك الاختلالُ يفسد على الصالحين صلاحَهم وينكد عيشهم على الرغم من صلاحهم واستقامتهم، فظهر أن الفتنة إذا حلّت بقوم لا تصيب الظالم خاصة بل تعمه والصالح، فمن أجل ذلك وجب اتقاؤها على الكل، لأن إضرار حلولها تصيب جميعهم.
وبهذا تعلم أن الفتنة قد تكون عقاباً من الله تعالى في الدنيا، فهي تأخذ حكم العقوبات الدنيوية التي تصيب الأمم، فإن من سُنتها أن لا تخص المجرمين إذا كان الغالب على الناس هو الفساد، لأنها عقوبات تحصل بحوادث كونية يستتب في نظام العالم الذي سنه الله تعالى في خلق هذا العالم أن يوزع على الأشخاص كما ورد في حديث النهي عن المنكر في الصحيح : أن النبي قال : مثل القائِم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على مَن فوقهم فقالوا : لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ مَن فوقنا فإنْ يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجَوا ونجَوا جميعاً وفي صحيح مسلم ( عن زينب بنت جحش أنها قالت :( يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال : نعم إذا كثر الخبث ثم يحشْرون على نياتهم ).
وحرف ) لا ( في قوله :( لا تصيبن ( نهي بقرينة اتصال مدخولها بنون التوكيد المختصة بالإثبات في الخبر وبالطلب، فالجملة الطلبية : إما نعت ل ) فتنة ( بتقدير قول محذوف، ومثله وارد في كلام العرب كقول العجاج :
حتى إذا جَن الظلام واختلط
جاءوا بِمَذْق هَلْ رأيتَ الذئب قط
أي مقول فيه. وباب حذف القول باب متسع، وقد اقتضاه مقام المبالغة في