الثالثة- استدل من فضل آدم وبنيه بقوله تعالى للملائكة :﴿اسْجُدُوا لآدَمَ﴾. قالوا : وذلك يدل على أنه كان أفضل منهم. والجواب أن معنى ﴿اسْجُدُوا لآدَمَ﴾ اسجدوا لي مستقبلين وجه آدم. وهو كقوله تعالى :﴿أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ [الإسراء : ٧٨] أي عند دلوك الشمس وكقوله :﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [ص : ٧٢] أي فقعوا لي عند إتمام خلقه ومواجهتكم إياه ساجدين. وقد بينا أن المسجود له لا يكون أفضل من الساجد بدليل القبلة.
فإن قيل : فإذا لم يكن أفضل منهم فما الحكمة في الأمر بالسجود له ؟ قيل له : إن الملائكة لما استعظموا بتسبيحهم وتقديسهم أمرهم بالسجود لغيره ليريهم استغناءه عنهم وعن عبادتهم. وقال بعضهم : عيروا آدم واستصغروه ولم يعرفوا خصائص الصنع به فأمروا بالسجود له تكريما. ويحتمل أن يكون الله تعالى أمرهم بالسجود له معاقبة لهم على قولهم :﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ لما قال لهم :﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة : ٣٠] وكان علم منهم أنه إن خاطبهم أنهم قائلون هذا، فقال لهم :﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ﴾ [ص : ٧١] وجاعله خليفة، فإذا نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين. والمعنى : ليكون ذلك عقوبة لكم في ذلك الوقت على ما أنتم قائلون لي الآن. فإن قيل : فقد استدل ابن عباس على فضل البشر بأن الله تعالى أقسم بحياة رسوله ﷺ فقال :﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الحجر : ٧٢]. وأمنه من العذاب بقوله :﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [الفتح : ٢]. وقال للملائكة :﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء : ٢٩]. قيل له : إنما لم يقسم بحياة الملائكة كما لم يقسم بحياة نفسه سبحانه، فلم يقل : لعمري. وأقسم بالسماء والأرض، ولم يدل على أنهما أرفع قدرا من العرش والجنان السبع. وأقسم بالتين والزيتون. وأما قول سبحانه :﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ﴾ [الأنبياء : ٢٩] فهو نظير قوله لنبيه عليه السلام :﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزمر : ٦٥] فليس فيه إذا دلالة، والله أعلم.