ما يغنيه منها فاكتفى به وقنع، فقد تجافى عن دار الغرور. وإذا أحكم أموره بالتقوى فكان ناظرا في كل أمر، واقفا متأدبا متثبتا حذرا يتورع عما يريبه إلى ما لا يريبه، فقد استعد للموت. فهذه علامتهم في الظاهر. وإنما صار هكذا لرؤية الموت، ورؤية صرف الآخرة عن الدنيا، ورؤية الدنيا أنها دار الغرور، وإنما صارت له هذه الرؤية بالنور الذي ولج القلب. وقوله :﴿ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ قيل : المراد أبو لهب وولده ؛ ومعنى :﴿ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ أن قلوبهم تزداد قسوة من سماع ذكره. وقيل : إن ﴿ مِنْ ﴾ بمعنى عن، والمعنى قست عن قبول ذكر الله. وهذا اختيار الطبري. وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال :"قال الله تعالى اطلبوا الحوائج من السمحاء فإني جعلت فيهم رحمتي ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم فإني جعلت فيهم سخطي". وقال مالك بن دينار : ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب، وما غضب الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم.
الآية :[٢٣] ﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾
فيه ثلاث مسائل :
الأولى- قوله تعالى :﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ﴾ يعني القرآن لما قال :﴿ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾ بين أن أحسن ما يسمع ما أنزله الله وهو القرآن. قال سعد بن أبي وقاص قال أصحاب رسول الله ﷺ : لو حدثتنا فأنزل الله عز وجل :﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ﴾ فقالوا : لو قصصت علينا فنزل :﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾ فقالوا : لو ذكرتنا فنزل :﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ﴾ الآية. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن أصحاب رسول الله ﷺ ملوا ملة فقالوا له : حدثنا فنزلت. والحديث ما يحدث به المحدث. وسمي القرآن حديثا ؛ لأن رسول الله ﷺ كان يحدث به


الصفحة التالية
Icon