أنهم في الدرك الأسفل من النار كان ذلك جهرا بسوء من القول، ثم قال لهم بعد ذلك :﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ ﴾ على معنى التأنيس والاستدعاء إلى الشكر والإيمان. ثم قال للمؤمنين :﴿ لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ ﴾ في إقامته على النفاق ؛ فإنه يقال له : ألست المنافق الكافر الذي لك في الآخرة الدرك الأسفل من النار ؟ ونحو هذا من القول. وقال قوم : معنى الكلام : لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول، ثم استثنى استثناء منقطعا ؛ أي لكن من ظلم فإنه يجهر بالسوء ظلما وعدوانا وهو ظالم في ذلك.
قلت : وهذا شأن كثير من الظلمة ودأبهم ؛ فإنهم مع ظلمهم يستطيلون بألسنتهم وينالون من عرض مظلومهم ما حرم عليهم. وقال أبو إسحاق الزجاج : يجوز أن يكون المعنى "إلا من ظلم" فقال سوءا ؛ فإنه ينبغي أن تأخذوا على يديه ؛ ويكون الاستثناء ليس من الأول.
قلت : ويدل على هذا أحاديث منها قوله عليه السلام :"خذوا على أيدي سفهائكم". وقوله :"انصر أخاك ظالما أو مظلوما" قالوا : هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما ؟ قال :"تكفه عن الظلم". وقال الفراء :﴿ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ﴾ يعني ولا من ظلم.
قوله تعالى :﴿ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً ﴾ تحذير للظالم حتى لا يظلم، وللمظلوم حتى لا يتعدى الحد في الانتصار. ثم أتبع هذا بقوله :﴿ إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ ﴾ فندب إلى العفو ورغب فيه. والعفو من صفة الله تعالى مع القدرة على الانتقام ؛ وقد تقدم في "آل عمران" فضل العافين عن الناس. ففي هذه الألفاظ اليسيرة معان كثيرة لمن تأملها. وقيل : إن عفوت فإن الله يعفو عنك. روي ابن المبارك قال : حدثني من سمع الحسن يقول : إذا جثت الأمم بين يدي رب العالمين يوم القيامة نودي ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا ؛ يصدق هذا الحديث قوله تعالى :﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾.