ثم قال ﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ﴾ أي هذا الذي رزقكم، وهذا كله فعله هو. ﴿رَبُّكُمُ الْحَقُّ﴾ أي الذي تحق له الألوهية ويستوجب العبادة، وإذا كان ذلك فتشريك غيره ضلال وغير حق.
الثانية : قال علماؤنا : حكمت هذه الآية بأنه ليس بين الحق والباطل منزلة ثالثة في هذه المسألة التي هي توحيد الله تعالى، وكذلك هو الأمر في نظائرها، وهي مسائل الأصول التي الحق فيها في طرف واحد ؛ لأن الكلام فيها إنما هو في تعديد وجود ذات كيف هي، وذلك بخلاف مسائل الفروع التي قال الله تعالى فيها :﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾ [المائدة : ٤٨]، وقوله عليه السلام :"الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات". والكلام في الفروع إنما هو في أحكام طارئة على وجود ذات متقررة لا يختلف فيها وإنما يختلف في الأحكام المتعلقة بها.
الثالثة : ثبت عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ كان إذا قام إلى الصلاة في جوف الليل قال :"اللهم لك الحمد" الحديث. وفيه "أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق والساعة حق والنبيون حق ومحمد حق" الحديث. فقوله :"أنت الحق" أي الواجب الوجود ؛ وأصله من حق الشيء أي ثبت ووجب. وهذا الوصف لله تعالى بالحقيقة إذ وجوده لنفسه لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم ؛ وما عداه مما يقال عليه هذا الاسم مسبوق بعدم، ويجوز عليه لحاق العدم، ووجوده من موجده لا من نفسه. وباعتبار هذا المعنى كان أصدق كلمة قالها الشاعر، كلمة لبيد :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص : ٨٨].
الرابعة : مقابلة الحق بالضلال عرف لغة وشرعا، كما في هذه الآية. وكذلك أيضا مقابلة الحق بالباطل عرف لغة وشرعا ؛ قال الله تعالى :{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ