قلت : وهذا مردود ؛ فإن القميص الذي جاؤوا عليه بالدم غير القميص الذي قُد، وغير القميص الذي أتاه البشير به. وقد قيل : إن القميص الذي قُد هو الذي أتي به فارتد بصيرا، على ما يأتي بيانه آخر السورة إن شاء الله تعالى. وروي أنهم قالوا له : بل اللصوص قتلوه ؛ فاختلف قولهم، فاتهمهم، فقال لهم يعقوب : تزعمون أن الذئب أكله، ولو أكله لشق قميصه قبل أن يفضي إلى جلده، وما أرى بالقميص من شق ؛ وتزعمون أن اللصوص قتلوه، ولو قتلوه لأخذوا قميصه ؛ هل يريدون إلا ثيابه ؟ ! فقالوا عند ذلك :﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ عن الحسن وغيره ؛ أي لو كنا موصوفين بالصدق لا تهمتنا.
الثالثة : استدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الأمارات في مسائل من الفقه كالقسامة وغيرها، وأجمعوا على أن يعقوب عليه السلام ستدل على كذبهم بصحة القميص ؛ وهكذا يجب على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت، فما ترجح منها قضى بجانب الترجيح، وهي قوة التهمة ؛ ولا خلاف بالحكم بها، قاله بن العربي.
﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾
فيلا ثلاث مسائل :
الأولى : روي أن يعقوب لما قالوا له :﴿فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ﴾ قال لهم : ألم يترك الذئب له عضوا فتأتوني به أستأنس به ؟ ! ألم يترك لي ثوبا أشم فيه رائحته ؟ قالوا : بلى! هذا قميصه ملطوخ بدمه ؛ فذلك قوله تعالى :﴿وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ فبكى يعقوب عند ذلك وقال، لبنيه : أروني قميصه، فأروه فشمه وقبله، ثم جعل يقلبه فلا يرى فيه شقا ولا تمزيقا، فقال : والله الذي لا إله إلا هو ما رأيت كاليوم ذئبا أحكم منه ؛ أكل ابني واختلسه من قميصه ولم يمزقه عليه ؛ وعلم أن الأمر ليس كما قالوا، وأن الذئب لم يأكله، فأعرض عنهم كالمغضب باكيا حزينا وقال : يا معشر ولدي! دلوني على ولدي ؛ فإن كان حيا رددته إلي، وإن كان ميتا كفنته ودفنته، فقيل قالوا حينئذ : ألم تروا إلى أبينا كيف يكذبنا في مقالتنا! تعالوا نخرجه من الجب ونقطعه عضوا عضوا، ونأت أبانا بأحد أعضائه فيصدقنا