" صفحة رقم ٣٢٦ "
وبنوه : سلامة قلبه، تريد نفي المال والبنين عنه، وإثبات سلامة القلب له بدلاً عن ذلك. وإن شئت حملت الكلام على المعنى وجعلت المال والبنين في معنى الغنى، كأنه قيل : يوم لا ينفع غنى إلا غني من أتى الله بقلب سليم ؛ لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه، كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه. ولك أن تجعل الاستثناء منقطعاً. ولا بدّ لك مع ذلك من تقدير المضاف وهو الحال، والمراد بها سلامة القلب، وليست هي من جنس المال والبنين، حتى يؤول المعنى إلى أن المال والبنين لا ينفعان، وإنما ينفع سلامة القلب. ولو لم يقدر المضاف، لم يتحصل للاستثناء معنى. وقد جعل ) مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ( مفعولاً لينفع، أي : لا ينفع مال ولا بنون، إلا رجلاً سلم قلبه مع ماله حيث أنفقه في طاعة الله، ومع بنيه حيث أرشدهم إلى الدين وعلمهم الشرائع. ويجوز على هذا ) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( من فتنة المال والبنين. ومعنى سلامة القلب : سلامته من آفات الكفر والمعاصي، ومما أكرم الله تعالى به خليله ونبه على جلالة محله في الإخلاص : أن حكى استثناءه هذا حكاية راض بإصابته فيه. ثم جعله صفة له في قوله :) وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْراهِيمَ إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( ( الصافات : ٨٤ ) ومن بدع التفاسير : تفسير بعضهم السليم باللديغ من خشية الله. وقول آخر : هو الذي سلم وسلم وأسلم وسالم واستسلم. وما أحسن ما رتب إبراهيم عليه السلام كلامه مع المشركين، حين سألهم أوّلاً عما يعبدون سؤال مقرّر لا مستفهم، ثم أنحى على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع على تقليدهم آباءهم الأقدمين، فكسره وأخرجه من أن يكون شبهة فضلاً أن يكون حجة، ثم صوّر المسألة في نفسه دونهم حتى تخلص منها إلى ذكر الله عز وعلا، فعظم شأنه وعدّد نعمته، من لدن خلقه وإنشائه إلى حين وفاته، مع ما يرجى في الآخرة من رحمته، ثم أتبع ذلك أن دعاه بدعوات المخلصين، وابتهل إليه ابتهال الأوّابين، ثم وصله بذكر يوم القيامة وثواب الله وعقابه وما يدفع إليه المشركون يومئذٍ من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال وتمني الكرة إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا.
) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (
الشعراء :( ٩٠ ) وأزلفت الجنة للمتقين
الجنة تكون قريبة من موقف السعداء ينظرون إليها ويغتبطون بأنهم المحشورون إليها، والنار تكون بارزة مكشوفة للأشقياء بمرأى منهم، يتحسرون على أنهم المسوقون إليها : قال الله تعالى :) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ( ( ق : ٣١ ) وقال :) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( ( الملك : ٢٧ ) : يجمع عليهم الغموم كلها والحسرات،