" صفحة رقم ٢١٤ "
الملائكة المرتجة بالتسبيح والتقديس حول العرش، وما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى من آثار ملكوته العظمى، فلذلك قال :) يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ ( أي يبتدىء الانفطار من جهتهنّ الفوقانية. أو : لأن كلمة الكفر جاءت من الذين تحت السماوات، فكان القياس أن يقال : ينفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها الكلمة، ولكنه بولغ في ذلك، فجعلت مؤثرة في جهة الفوق، كأنه قيل : يكدن ينفطرن من الجهة التي فوقهن دع الجهة التي تحتهنّ، ونظيره في المبالغة قوله عزّ وعلا ) يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسَهُمْ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ ( ( الحج : ١٩ ٢٠ ) فجعل الحميم مؤثراً في أجزائهم الباطنة. وقيل : من فوقهنّ : من فوق الأرضين. فإن قلت : كيف صح أن يستغفروا لمن في الأرض وفيهم الكفار أعداء الله ؟ وقد قال الله تعالى :) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلئِكَةِ ( ( البقرة : ١٦١ ) فكيف يكونون لاعنين مستغفرين لهم ؟ قلت : قوله :) لِمَن فِى الاْرْضِ ( يدل على جنس أهل الأرض، وهذه الجنسية قائمة في كلهم وفي بعضهم ؛ فيجوز أن يراد به هذا وهذا. وقد دل الدليل على أن الملائكة لا يستغفرون إلا لأولياء الله وهم المؤمنون، فما أراد الله إلا إياهم. ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة المؤمن :) وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ ( ( غافر : ٧ ) وحكايته عنهم ) فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ ( ( غافر : ٧ ) كيف وصفوا المستغفر لهم بما يستوجب به الاستغفار فما تركوا للذين لم يتوبوا من المصدقين طمعاً في استغفارهم، فكيف للكفرة. ويحتمل أن يقصدوا بالاستغفار : طلب الحلم والغفران في قوله تعالى :) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ ( ( فاطر : ٤١ ) إلى أن قال :) إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ( ( الإسراء : ٤٤ ) وقوله تعالى :) إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ لّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ ( ( الرعد : ٦ ) والمراد : الحلم عنهم وأن لا يعالجهم بالانتقام فيكون عاماً. فإن قلت : قد فسرت قوله تعالى :) تَكَادُ السَّمَاواتُ يَتَفَطَّرْنَ ( بتفسيرين. فما وجه طباق ما بعده لهما ؟ قلت : أما على أحدهما فكأنه قيل : تكاد السماوات ينفطرن هيبة من جلاله واحتشاماً من كبريائه، والملائكة الذين هم ملء السبع الطباق وحافون حول العرش صفوفاً بعد صفوف يداومون خضوعاً لعظمته على عبادته وتسبيحه وتحميده، ويستغفرن لمن في الأرض خوفاً عليهم من سطواته. وأما على الثاني فكأنه قيل : يكدن ينفطرن من إقدام أهل الشرك على تلك الكلمة الشنعاء، والملائكة يوحدون الله وينزهونه عما لا يجوز عليه من الصفات التي يضيفها إليه الجاهلون به، حامدين له على ما أولاهم من ألطافه التي علم أنهم عندها يستعصمون، مختارين غير ملجئين، ويستغفرون لمؤمني أهل الأرض الذين تبرؤوا من تلك الكلمة ومن أهلها. أو يطلبون إلى ربهم أن يحلم عن أهل الأرض ولا يعاجلهم بالعقاب مع وجود ذلك فيهم، لما عرفوا في ذلك من المصالح، وحرصاً


الصفحة التالية
Icon