" صفحة رقم ١٥٢ "
غير هذا. والغضب من الله تعالى إرادة الانتقام من العاصي لأنه عالم بالعبد قبل خلقه وقبل صدور المعصية منه، فيكون من صفات الذات أو إحلال العقوبة به، فيكون من صفات الأفعال، وقدم الغضب على الضلال، وإن كان الغضب من نتيجة الضلال ضل عن الحق فغضب عليه لمجاورة الأنعام، ومناسبة ذكره قرينة، لأن الإنعام يقابل بالانتقام، ولا يقابل الضلال الإنعام فالإنعام إيصال الخير إلى المنعم عليه، والانتقام إيصال الشر إلى المغضوب عليه، فبينهما تطابق معنوي، وفيه أيضاً تناسب التسجيع، لأن قوله ولا الضالين، تمام السورة، فناسب أواخر الآي، ولو تأخر الغضب، ومتعلقه لما ناسب أواخر الآي. وكان العطف بالواو الجامعة التي لا دلالة فيها على التقديم والتأخير لحصول هذا المعنى من مغايرة جمع الوصفين، الغضب عليه، والضلال لمن أنعم الله عليه، وإن فسر اليهود والنصارى. فالتقديم إما للزمان أو لشدة العداوة، لأن اليهود أقدم وأشد عداوة من النصارى.
وقد أنجر في غضون تفسير هذه السورة الكريمة من علم البيان فوائد كثيرة لا يهتدي إلى استخراجها إلا من كان توغل في فهم لسان العرب، ورزق الحظ الوافر من علم الأدب، وكان عالماً بافتنان الكلام، قادراً على إنشاء النثار البديع والنظام. وأما من لا اطلاع له على كلام العرب، وجسا طبعه حتى عن الفقرة الواحدة من الأدب، فسمعه عن هذا الفن مسدود، وذهنه بمعزل عن هذا المقصود. قالوا : وفي هذه السورة الكريمة من أنواع الفصاحة والبلاغة أنواع :.
النوع الأول : حسن الافتتاح وبراعة المطلع، فإن كان أولها بسم الله الرحمن الرحيم، على قول من عدها منها، فناهيك بذلك حسناً إذ كان مطلعها، مفتتحاً باسم الله، وإن كان أولها الحمد لله، فحمد الله والثناء عليه بما هو أهله، ووصفه بماله من الصفات العلية أحسن ما افتتح به الكلام، وقدم بين يدي النثر والنظام، وقد تكرر الافتتاح بالحمد في كثير من السور، والمطالع تنقسم إلى حسن وقبيح، والحسن إلى ظاهر وخفي على ما قسم في علم البديع. النوع الثاني : المبالغة في الثناء، وذلك لعموم أل في الحمد على التفسير الذي مر. النوع الثالث : تلوين الخطاب على قول بعضهم، فإنه ذكر أن الحمد لله صيغته صيغة الخبر، ومعناه الأمر، كقوله :) لاَ رَيْبَ فِيهِ ( ومعناه النهي. النوع الرابع : الاختصاص باللام التي في لله، إذ دلت على أن جميع المحامد مختصة به، إذ هو مستحق لها وبالإضافة في ملك يوم الدين لزوال الأملاك والممالك عن سواه في ذلك اليوم، وتفرده فيه بالملك والملك، قال تعالى :) لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ (، ولأنه لا مجازى في ذلك اليوم على الأعمال سواه. النوع الخامس : الحذف، وهو على قراءة من نصب الحمد ظاهر، وتقدم، هل يقدر من لفظ الحمد أو من غير لفظه ؟ قال بعضهم ؟ ومنه حذف العامل الذي هو في الحقيقة خبر عن الحمد، وهو الذي يقدر بكائن أو مستقر، قال : ومنه حذف صراط من قوله غير المغضوب، التقدير غير صراط المغضوب عليهم، وغير صراط الضالين، وحذف سورة إن قدرنا العامل في الحمد إذا نصبناه، إذكروا أو اقرؤا، فتقديره اقرؤوا سورة الحمد، وأما من قيد الرحمن، والرحيم، ونعبد، ونستعين، وأنعمت، والمغضوب عليهم، والضالين، فيكون عنده في سورة محذوفات كثيرة.


الصفحة التالية
Icon