" صفحة رقم ١٨٤ "
ليسوا متلبسين بشيء من الإيمان في وقت مّا من الأوقات، وهذا أحسن من أن يحمل على تقييد الإيمان المنفي، أي وما هم بمؤمنين بالله واليوم الآخر، ولم يردّ الله تعالى عليهم قولهم : آمنا، إنما رد عليهم متعلق القول وهو الإيمان، وفي ذلك رد على الكرامية في قولهم : إن الإيمان قول باللسان وإن لم يعتقد بالقلب. وهم في قوله :) وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ( عائد على معنى من، إذ أعاد أولاً على اللفظ فأفرد الضمير في يقول، ثم أعاد على المعنى فجمع. وهكذا جاء في القرآن أنه إذا اجتمع اللفظ والمعنى بدىء باللفظ ثم أتبع بالحمل على المعنى. قال تعالى :) وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لّي وَلاَ تَفْتِنّى أَلا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ (، ( وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءاتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ( الآية، ( وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً ).
وذكر شيخنا الإمام علم الدين أبو محمد عبد الكريم بن علي بن عمر الأنصاري الأندلسي الأصل المصري المولد والمنشأ، المعروف بابن بنت العراقي، رحمه الله تعالى، أنه جاء موضع واحد في القرآن بدىء فيه بالحمل على المعنى أولاً ثم أتبع بالحمل على اللفظ، وهو قوله تعالى :) وَقَالُواْ مَا فِى بُطُونِ هَاذِهِ الانْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْواجِنَا (، وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه، إن شاء الله تعالى. وأورد بعضهم قراءة من قرأ في الشاذ، ( وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ ( بضم الهمزة متخيلاً أنه مما بدىء فيه بالحمل على المعنى، وسيأتي الكلام عليه في موضعه. ولا يجيز الكوفيون الجمع بين الجملتين إلا بفاصل بينهما، ولم يعتبر البصريون الفاصل، قال ابن عصفور، ولم يرد السماع إلا بالفصل، كما ذهب الكوفيون إليه، وليس ما ذكر بصحيح، ألا ترى قوله تعالى :) وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( ؟ فحمل على اللفظ في كان، إذ أفرد الضمير وجاء الخبر على المعنى، إذ جاء جمعاً ولا فصل بين الجملتين، وإنما جاء أكثر ذلك بالفصل لما فيه من إزالة قلق التنافر الذي يكون بين الجملتين.
وقراءة الجمهور : يخادعون الله، مضارع خادع. وقرأ عبد الله وأبو حياة يخدعون الله، مضارع خدع لمجرد، ويحتمل قوله :) يُخَادِعُونَ اللَّهَ ( أن يكون مستأنفاً، كأن قائلاً يقول : لم يتظاهرون بالإيمان وليسوا بمؤمنين في الحقيقة ؟ فقيل : يخادعون، ويحتمل أن يكون بدلاً من قوله : يقول آمنا، ويكون ذلك بياناً، لأن قولهم : آمنا وليسوا بمؤمنين في الحقيقة مخادعة، فيكون بدل فعل من فعل لأنه في معناه، وعلى كلا الوجهين لا موضع للجملة من الإعراب. ويحتمل أن تكون الجملة في موضع الحال، وذو الحال الضمير المستكن في يقول، أي : ومن الناس من يقول آمنا، مخادعين الله والذين آمنوا. وجوّز أبو البقاء أن يكون حالاً، والعامل فيها اسم الفاعل الذي هو : بمؤمنين، وذو الحال : الضمير المستكن في اسم الفاعل. وهذا إعراب خطأ، وذلك أن ما دخلت على الجملة فنفت نسبة الإيمان إليهم، فإذا قيدت تلك النسبة بحال تسلط النفي على تلك الحال، وهو القيد، فنفته، ولذلك طريقان في لسان العرب : أحدهما : وهو الأكثر أن ينتفي ذلك القيد فقط، ويكون إذ ذاك قد ثبت العامل في ذلك القيد، فإذا قلت : ما زيد أقبل ضاحكاً فمفهومه نفي الضحك ويكون قد أقبل غير ضاحك، وليس معنى الآية على هذا، إذ لا ينفي عنهم الخداع فقط، ويثبت لهم الإيمان بغير خداع، بل المعنى : نفي الإيمان عنهم مطلقاً. والطريق الثاني : وهو الأقل، أن ينتفي القيد وينتفي العامل فيه، فكأنه قال في المثال السابق : لم يقبل زيد ولم يضحك : أي لم يكن منه إقبال ولا ضحك. وليس معنى الآية على هذا، إذ ليس المراد نفي الإيمان عنهم ونفي الخداع.
والعجب من أبي البقاء كيف تنبه لشيء من هذا فمنع أن يكون يخادعون في موضع الصفة فقال : ولا يجوز أن يكون في موضع جر على الصفة لمؤمنين، لأن ذلك يوجب نفي خداعهم، والمعنى على إثبات الخداع، انتهى كلامه. فأجاز ذلك في الحال ولم يجز ذلك في الصفة، وهما سواء، ولا فرق بين الحال والصفة في ذلك، بل كل منهما قيد يتسلط النفي عليه، والله تعالى هو العالم الذي لا يخفى عليه شيء. فمخادعة المنافقين الله هو من حيث الصورة لا من حيث