" صفحة رقم ٢٤٤ "
فقد أحسنت إليك، إذا حمل على ظاهره ولم يتأول. ولهذا قال بعض المفسرين في قوله :) وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ ( : جرى كلام الله فيه على التحقيق، مثال قول الرجل لعبده : إن كنت عبدي فأطعني لأن الله تعالى عالم بما تكنه القلوب، قال : وبين هذا أن سبب نزول هذه الآية قول اليهود : وإنا لفي شك مما جاء به، وجعلها بمعنى إذا وكان ماضيه اللفظ والمعنى، أو مثل قول القائل : إن كنت عبدي فأطعني، فراراً من جعل ما بعد إن مستقبل المعنى وذلك ممكن، ولا تنافي بين إن كانوا في ريب فيما مضى وإن تعلق على كونهم في ريب في المستقبل، لأن الماضي من الجائز أن يستدام، بأن يظهر لمعتقد الريب فيما مضى خلاف ذلك فيزول عنه الريب، فقيل : وإن كنتم، أي : وإن تكونوا في ريب، باستصحاب الحالة الماضية التي سبقت لكم، فأتوا، وهذا مثل من يقول لولده العاق له : إن كنت تعصيني فارحل عني، فمعناه : إن تكن في المستقبل تعصيني فارحل عني، لا يريد التعليق على الماضي، ولا أن إن بمعنى إذا، إذ لا تنافي بين تقدّم العصيان وتعليق الرحيل على وقوعه في المستقبل، ولا حاجة إلى جعل ما يثبت حرفيته بمعنى إذا الظرفية.
وقد تقدّم لنا أنه لا تنافي بين قوله تعالى :) لاَ رَيْبَ فِيهِ ( وبين قوله :) وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ ( عند الكلام على قوله :) لاَ رَيْبَ فِيهِ ). وفي ريب من تنزيل المعاني منزلة الإجرام. ومن تحتمل ابتداء الغاية والسببية، ولا يجوز أن تكون للتبعيض. وما موصولة، أي من الذي نزلناه، والعائد محذوف، أي نزلناه، وشرط حذفه موجود. وأجاز بعضهم أن تكون ما نكرة موصوفة، وقد تقدم لنا الكلام على ما النكرة الموصوفة، ونزلنا التضعيف فيه هنا للنقل، وهو المرادف لهمزة النقل. ويدل على مرادفتهما في هذه الآية قراءة يزيد بن قطيب مما أنزلنا بالهمزة، وليس التضعيف هنا دالاً على نزوله منجماً في أوقات مختلفة، خلافاً للزمخشري، قال : فإن قلت لم قيل : مما نزلنا على لفظ التنزيل دون الإنزال ؟ قلت : لأن المراد النزول على التدريج والتنجمي، وهو من مجازه لمكان التحدي.
وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري في تضعيف عين الكلمة هنا، هو الذي يعبر عنه بالتكثير، أي يفعل ذلك مرة بعد مرة، فيدل على هذا المعنى بالتضعيف ويعبر عنه بالكثرة. وذهل الزمخشري عن إن ذلك إنما يكون غالباً في الأفعال التي تكون قبل التضعيف متعدية، نحو : جرحت زيداً، وفتحت الباب، وقطعت، وذبحت، لا يقال : جلس زيد، ولا قعد عمر، ولا صوم جعفر، ونزلنا لم يكن متعدياً قبل التضعيف إنما كان لازماً، وتعديه إنما يفيده التضعيف أو الهمزة، فإن جاء في لازم فهو قليل. قالوا : مات المال، وموت المال، إذا كثر ذلك فيه، وأيضاً، فالتضعيف الذي يراد به التكثير إنما يدل على كثرة وقوع الفعل، أما أن يجعل اللازم متعدياً فلا، ونزلنا قبل التضعيف كان لازماً ولم يكن متعدياً، فيكون التعدي المستفاد من التضعيف دليلاً على أنه للنقل لا للتكثير، إذ لو كان للتكثير، وقد دخل على اللازم، بقي لازماً نحو : مات المال، وموّت المال. وأيضاً فلو كان التضعيف في نزل مفيداً للتنجمي لاحتاج قوله تعالى :) لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءانُ جُمْلَةً واحِدَةً ( إلى تأويل، لأن التضعيف دال على التنجمي والتكثير، وقوله :) جُمْلَةً واحِدَةً ( ينافي ذلك. وأيضاً فالقراءات بالوجهين في كثير مما جاء يدل على أنهما بمعنى واحد. وأيضاً مجيء نزل حيث لا يمكن فيه التكثير والتنجيم إلا على تأويل بعيد جداً يدل على ذلك.
قال تعالى :) وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ (، وقال تعالى :) قُل لَوْ كَانَ فِى الاْرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً (، ليس المعنى على أنهم اقترحوا تكرير نزول الآية، ولا أنه علق تكرير نزول ملك رسول على تقدير كون ملائكة في الأرض، وإنما المعنى، والله أعلم، مطلق الإنزال. وفي نزلنا التفات لأنه انتقال من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم، لأن قبله ) اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ( و ) فَلاَ