" صفحة رقم ٣٣٦ "
الثالث : وأنتم تعلمون أنه نبي مرسل للناس قاطبة. الرابع : وأنتم تعلمون الحق من الباطل. وقال الزمخشري : وأنتم تعلمون في حال علمكم أنكم لابسون كاتمون، فجعل مفعول العلم اللبس والكتم المفهومين من الفعلين السابقين، قال : وهو أقبح، لأن الجهل بالقبيح ربما عذر راكبه، انتهى. فكان ما قدّره هو على حذف مضاف، أي وأنتم تعلمون قبح أو تحريم اللبس والكتم، وقال ابن عطية : وأنتم تعلمون، جملة في موضع الحال ولم يشهد تعالى لهم بعلم، وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا، انتهى. ومفهوم كلامه أن مفعول تعلمون هو الحق، كأنه قال : ولا تكتموا الحق وأنتم تعلمونه، لأن المكتوم قد يكون حقاً وغير حق، فإذا كان حقاً وعلم أنه حق، كان كتمانه له أشد معصية وأعظم ذنباً، لأن العاصي على علم أعصى من الجاهل العاصي. قال ابن عطية : ويحتمل أن تكون شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر محمد ( ﷺ ) )، ولم يشهد لهم بعلم على الإطلاق، قال : ولا تكون الجملة على هذا في موضع الحال، انتهى. يعني أن الجملة تكون معطوفة، وإن كانت ثبوتية على ما قبلها من جملة النهي، وإن لم تكن مناسبة في الإخبار على ما قررناه من الكلام في تخريجنا لقراءة عبد الله : وتكتمون.
والأظهر من هذه الأقاويل ما قدّمناه أوّلاً من كون العلم حذف مفعوله حذف اقتصار، إذ المقصود أن من كان من أهل العلم والاطلاع على ما جاءت به الرسل، لا يصلح له لبس الحق بالباطل ولا كتمانه. وهذه الحال، وإن كان ظاهرها أنها قيد في النهي عن اللبس والكتم، فلا تدل بمفهومها على جواز اللبس والكتم حالة الجهل، لأن الجاهل بحال الشيء لا يدري كونه حقاً أو باطلاً، وإنما فائدتها : أن الإقدام على الأشياء القبيحة مع العلم بها أفحش من الإقدام عليها مع الجهل بها. وقال القشيري : لا تتوهموا، إن يلتئم لكم جمع الضدّين والكون في حالة واحدة في محلين، فإما مبسوطة بحق، وإما مربوطة بحط، ( وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ (، تدليس، ( وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ ( تلبيس، ( وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ( أن حق الحق تقديس، انتهى. وفي هذه الآية دليل أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره، ويحرم عليه كتمانه.
البقرة :( ٤٣ ) وأقيموا الصلاة وآتوا.....
( أقيموا الصلاة وأتوا الزكاة ( : تقدّم الكلام على مثل هذا في أوّل السورة في قوله :) وَيُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ (، ويعني بذلك صلاة المسلمين وزكاتهم، فقيل : هي الصلاة المفروضة، وقيل : جنس الصلاة والزكاة. قيل : أراد المفروضة، وقيل : صدقة الفطر، وهو خطاب لليهود، فدل ذلك على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. قال القشيري : وأقيموا الصلاة : احفظوا أدب الحضرة، فحفظ الأدب للخدمة من الخدمة، وآتوا الزكاة، زكاة الهمم، كما تؤدى زكاة النعم، قال قائلهم : كلّ شيء له زكاة تؤدّى
وزكاة الجمال رحمة مثلي
) وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ ( : خطاب لليهود، ويحتمل أن يراد بالركوع : الانقياد والخضوع، ويحتمل أن يراد به : الركوع المعروف في الصلاة، وأمروا بذلك وإن كان الركوع مندرجاً في الصلاة التي أمروا بإقامتها، لأنه ركوع في صلاتهم، فنبه بالأمر به، على أن ذلك مطلوب في صلاة المسليمن. وقيل : كنى بالركوع عن الصلاة : أي وصلوا مع المصلين، كما يكنى عنها بالسجدة تسمية للكلّ بالجزء، ويكون في قوله مع دلالة على إيقاعها في جماعة، لأن الأمر بإقامة الصلاة أوّلاً لم يكن فيها إيقاعها في جماعة. والراكعون : قيل النبي ( ﷺ ) ) وأصحابه، وقيل : أراد الجنس من الراكعين.
وفي هذه الجمل، وإن كانت معطوفات بالواو التي لا تقتضي في الوضع ترتيباً ترتيب عجيب، من حيث الفصاحة وبناء الكلام بعضه على بعض،