" صفحة رقم ٥٣٣ "
يعقل، واندرج فيه ما لا يعقل على حكم تغليب من يعقل. فحين ذكر الملك، أتى بلفظة ما، وحين ذكر القنوت، أتى بجمع ما يعقل، فدل على أن ذلك شامل لمن يعقل وما لا يعقل. قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاء بما الذي لغير أولي العلم مع قوله قانتون ؟ قلت : هو كقوله : سبحان ما سخركن لنا، وكأنه جاء بما دون من، تحقيراً لهم وتصغيراً لشأنهم، كقوله :) وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً ). انتهى كلامه، وهو جنوح منه إلى أن ما وقعت على من يعلم، ولذلك جعله كقوله :) مَا وَقَالُواْ لَنَا ). يريد أن المعنى : سبحان من سخركن لنا، لأنها يراد بها الله تعالى. وما عندنا لا يقع إلا لما لا يعقل، إلا إذا اختلط بمن يعقل، فيقع عليهما، كما ذكرناه، أو كان واقعاً على صفات من يعقل، فيعبر عنها بما. وأما أن يقع لمن يعقل، خاصة حالة إفراده أو غير إفراده، فلا. وقد أجاز ذلك بعض النحويين، وهو مذهب لا يقوم عليه دليل، إذ جميع ما احتج به لهذا المذهب محتمل، وقد يؤول، فيؤول قوله :) سُبْحَانَ مَا (، على أن سبحان غير مضاف، وأنه علم لمعنى التسبيح، فهو كقوله :
سبحان من علقمة الفاخر
وما : ظرفية مصدرية أي مدة تسخيركن لنا. والفاعل يسخر مضمر يفسره المعنى وسياق الكلام، إذ معلوم أن مسخرهن هو الله تعالى. وقول الزمخشري : وكأنه جاء بما دون من، تحقيراً لهم وتصغيراً لشأنهم، ليست ما هنا مختصة بمن يعقل، فتقول عبر عنهم بما التي لما لا يعقل تحقيراً لهم، وإنما هي عامة لمن يعقل ولما لا يعقل. ومعنى قانتون : قائمون بالشهادة، قاله الحسن، أو في القيامة للعرض، قاله الربيع، أو مطيعون، قاله قتادة ؛ أو مقرّون بالعبودية، قاله عكرمة. وقيل : قائمون بالله. وأورد على من يقول القنوت : القيام لله بالشهادة والعبودية، أنه : كيف عم بهذا القول وكثير ليس بمطيع ؟ وأجيب : أن ظاهره العموم، والمعنى الخصوص، أي أهل كل طاعة له قانتون، وبأن الكفار يسجد ضلالهم، وبظهور أثر الصنعة فيه، وجرى أحكام الله عليه، وذلك دليل على تذلله لله تعالى، ذكره ابن الأنباري.
( وَكُلٌّ لَهُ ( : مرفوع بالابتداء، والمضاف إليه محذوف، وهو عبارة عن من في السموات والأرض، أي كل من في السموات والأرض، وهو المحكوم عليهم بالملكية. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون كل من جعلوه لله ولداً، وهذا بعيد جداً، لأن المجعول لله ولداً لم يجر ذكره، ولأن الخبر يشترك فيه المجعول ولداً وغيره. و ) قَانِتُونَ ( : خبر عن كل، وجمع حملاً على المعنى. وكلّ، إذا حذف ما تضاف إليه، جاز فيها مراعاة المعنى فتجمع، ومراعاة اللفظ فتفرد. وإنما حسنت مراعاة الجمع هنا، لأنها فاصلة رأس آية، ولأن الأكثر في لسانهم أنه إذا قطعت عن الإضافة كان مراعاة المعنى أكثر وأحسن. قال تعالى :) وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ (، ( وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (، و ) كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ). وقد جاء إفراد الخبر كقوله :) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ (، وسيأتي إن شاء الله تعالى هناك ذكر محسن إفراد الخبر.
البقرة :( ١١٧ ) بديع السماوات والأرض.....
( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( : لما ذكر أنه مالك لجميع من في السموات والأرض، وأنهم كلّ قانتون له، وهم المظروف للسموات والأرض، ذكر الظرفين وخصهما بالبداعة، لأنهما أعظم ما نشاهده من المخلوقات. وارتفاع بديع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وهو من باب الصفة المشبهة باسم الفاعل. فالمجرور مشبه بالمفعول، وأصله الأول بديع سمواته، ثم شبه الوصف فأضمر فيه، فنصب السموات، ثم جر من نصب. وفيه أيضاً ضمير يعود على الله تعالى، ويكون المعنى في الأصل أنه تعالى بدعت