" صفحة رقم ٤٧٩ "
صحب من يعرف ذلك، وهو من قوم أمّيين، فمدرك ذلك إنما هو الوحي من عند الله كما قال في الآية الأخرى، وقد ذكر قصة أبعد الناس زماناً من زمانه / ( ﷺ ) ). وهو نوح عليه السلام، واستوفاها له في سورة هود أكثر مما استوفاها في غيرها ) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَاذَا ( وفي هذا دليل على نبوّة رسول الله ( ﷺ ) ) إذ أخبر بغيوب لم يطلع عليها إلاَّ من شاهدها، أو : من قرأها في الكتب السابقة، أو : من أوحي الله إليه بها. وقد انتفى العيان والقراءة، فتعين الثالث وهو الوحي من الله تعالى.
والكاف في : ذلك، و : إليك، خطاب للنبي ( ﷺ ) )، والأحسن في الإعراب أن يكون : ذلك، مبتدأ و : من أنباء الغيب، خبره. وأن يكون : نوحيه، جملة مستأنفة، ويكون الضمير في : نوحيه، عائداً على الغيب، أي : شأننا أننا نوحي إليك الغيب ونعلمك به، ولذلك أتى بالمضارع، ويكون أكثر فائدة من عوده على : ذلك، إذ يشتمل ما تقدّم من القصص وغيرها التي يوحيها إليه في المستقبل، إذ يصير نظير : زيد يطعم المساكين، فيكون إخباراً بالحالة الدائمة. والمستعمل في هذا المعنى إنما هو المضارع، وإذ يلزم من عوده على : ذلك، أن يكون : نوحيه، بمعنى : أوحيناه إليك، لأن الوحي به قد وقع وانفصل، فيكون أبعد في المجاز منه إذا كان شاملاً لهذه القصص وغيرها مما سيأتي، وجوّزوا أن يكون : نوحيه، خبراً : لذلك، و : من أنباء، حال من : الهاء، في : نوحيه، أو متعلقاً : بنوحيه.
( وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ( هذا تقرير وتثبيت أن ما علمه من ذلك إنما هو بوحي من الله تعالى، والمعلم به قصتان : قصة مريم، وقصة زكريا. فنبه على قصة مريم إذ هي المقصودة بالإخبار أولاً، وإنما جاءت قصة زكريا على سبيل الاستطراد، ولأندراج بعض قصة زكريا في ذكر من يكفل، فما خلت من تنبيه على قصة.
ومعنى :) مَا كُنتُ لَدَيْهِمْ ( أي : ما كنت معهم بحضرتهم إذ يلقون أقلامهم. ونفي المشاهدة، وإن كانت منتفية بالعلم ولم تنتف القراءة والتلقي، من حفاظ الأنباء على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي، وقد علموا أنه ليس ممن يقرأ، ولا ممن ينقل عن الحفاظ للأخبار، فتعين أن يكون علمه بذلك بوحي من الله تعالى إليه، ونظيره في قصة موسى :) وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىّ ( ) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ ( وفي قصة يوسف ) مَا كُنتُ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ ).
والضمير، في : لديهم، عائد على غير مذكور، بل على ما دل عليه المعنى، أي : وما كنت لدى المتنازعين، كقوله :) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً ( أي : بالمكان.
والعامل في : إذ، العامل في : لديهم. وقال أبو علي الفارسي : العامل في : إذ، كنت. إنتهى. ولا يناسب ذلك مذهبه في كان الناقصة. لأنه يزعم أنها سلبت الدلالة على الحدث، وتجردت للزمان وما سبيله هكذا، فكيف يعمل في ظرف ؟ لأن الظرف وعاء للحدث ولا حدث فلا يعمل فيه، والمضارع بعد : إذ، في معنى الماضي، أي : إذ ألقوا أقلامهم للاستهام على مريم، والظاهر أنها الأقلام التي للكتابة. وقيل : كانوا يكتبون بها التوراة، فاختاروها للقرعة تبركاً بها. وقيل : الأقلام هنا الأزلام، وهي : القداح، ومعنى الإلقاء هنا الرمي والطرح، ولم يذكر في الآية ما الذي ألقوها فيه، ولا كيفية حال الإلقاء، كيف خرج قلم زكريا. وقد ذكرنا فيما سبق شيئاً من ذلك عن المفسرين، والله أعلم بالصحيح منها. وقال أبو مسلم : كانت الأمم يكتبون أسماءهم على سهام عند المنازعة، فمن خرج له السهم سلم له الأمر، وهو شبيه بأمر القداح التي يتقاسم بهال الجزور.
وارتفع ) أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ( على الابتداء والخبر، وهو في موضع نصب إما على الحكاية بقول محذوف، أي : يقولون أيهم يكفل، ودل على المحذوف :) يُلْقُون أَقْلَامَهُمْ ( وقد استدل بهذه الآية على إثبات القرعة وهي مسألة فقهية تذكر في علم الفقه.
( وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ( أي : بسبب مريم، ويحتمل أن يكون هذا الاختصام هو الاقتراع، وأن يكون اختصاماً آخر بعده، والمقصود شدّة رغبتهم في التكفل بشأنها. والعامل في : اذ، العامل في : لديهم، أو، كنت، على قول أبي علي في : إذ يلقون


الصفحة التالية
Icon