" صفحة رقم ١٠٢ "
ونحا الجبائي في فهم هذه الآية منحى آخر غير هذا فقال : كانوا يستمعون القراءة ليتوصلوا بسماعها إلى معرفة مكان الرسول بالليل فيقصدوا قتله وإيذاءه، فعند ذلك كان الله يلقي على قلوبهم النوم وهو المراد من الأكنة وتثقل أسماعهم عن استماع تلك القراءة بسبب ذلك النوم وهو المراد بقوله :) أَوْ كَصَيّبٍ وِقْراً ). وقيل : إن الإنسان الذي علم الله منه أنه لا يؤمن وأنه يموت على الكفر يسم الله قلبه بعلامة مخصوصة تستدل الملائكة برؤيتها على أنهم لا يؤمنون، وإذا ثبت هذا فلا يبعد تسمية تلك العلامة بالكنان. وقيل : لما أصرُّوا على الكفر صار عدولهم عن الإيمان كالكنان المانع عن الإيمان فذكر تعالى ذلك كناية عن هذا المعنى. وقيل : لما منعهم الإلطاف التي إنما تصلح أن يفعل بمن قد اهتدى فأخلاهم وفوّضهم إلى أنفسهم ليسوء صنيعهم لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه، فيقول :) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ). وقيل : يكون هذا الكلام ورد حكاية لما كانوا يذكرونه من قولهم وقالوا : قلوبنا في أكنة وهذه الأقوال كلها تعزى إلى الجبائي وهي كلها فرار من نسبة الجعل إلى الله حقيقة فتأوّلوا ذلك على هذه المجازات البعيدة، وقد نحا الزمخشري منحى بعض هذه الأقوال فقال : الأكنة على القلوب والوقر في الآذان تمثيل نبوّ قلوبهم ومسامعهم عن قبوله واعتقاد صحته ووجه إسناد الفعل إلى ذاته وهو قوله :) وَجَعَلْنَا ( للدلالة على أنه أمر ثابت فيهم لا يزول عنهم كأنهم مجبولون عليه، أو هي حكاية لما كانوا ينطقون به من قولهم وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب ؛ انتهى. وهو جار على مذهب أصحابه المعتزلة، وأما عند أهل السنة فنسبة الجعل إلى الله حقيقة لا مجاز وهي مسألة خلق الأعمال يبحث فيها في أصول الدّين. قال ابن عطية : وهذه عبارة عن ما جعل الله في نفوس هؤلاء القوم من الغلظ والبعد عن قبول الخير كأنهم لم يكونوا سامعين لأقواله.
( وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ( لما ذكر عدم انتفاعهم بعقولهم حتى كأن على محالها أكنة ولا بسماعهم حتى كأن ) أَوْ كَصَيّبٍ وِقْراً ( انتقل إلى الحاسة التي هي أبلغ من حاسة السماع، فنفى ما يترتب على إدراكها وهو الإيمان والرؤية هنا بصرية والآية كانشقاق القمر ونبع الماء من أصابعه، وحنين الجذع وانقلاب العصا سيفاً والماء الملح عذباً وتصيير الطعام القليل كثيراً وما أشبه ذلك. وقال ابن عباس :) كُلُّ ءايَةٍ ( كل دليل وحجة لا يؤمنوا بها لأجل ما جعل على قلوبهم أكنة ؛ انتهى. ومقصود هذه الجملة الشرطية الإخبار عن المبالغة التامّة والعناد المفرط في عدم إيمانهم حتى إن الشيء المرئي الدال على صدق الرسول حقيقة لا يرتبون عليه مقتضاه، بل يرتبون عليه ضد مقتضاه.
( حَتَّى إِذَا جَاءوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ ( ) يُجَادِلُونَكَ ( أي يخاصمونك في الاحتجاج وبلغ تكذيبهم في الآيات إلى المجادلة، وهذا إشارة إلى القرآن وجعلهم إياه من ) أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ ( قدح في أنه كلام الله. قيل : كان النضر يعارض القرآن بإخبار اسفنديار ورستم. وقال ابن عباس : مجادلتهم قولهم : تأكلون ما قلتم ولا تأكلون ما قتل الله ؛ انتهى. وهذا فيه بعد وظاهر المجادلة أنه في المسموع الذي هم يستمعون إلى الرسول بسببه وهو القرآن، والمعنى أنهم في الاحتجاج ؛ انتهى. أمرهم إلى المجادلة والافتراء دون دليل، ومجيء الجملة الشرطية ) إِذَا ( بعد ) حَتَّى ( كثير جدًّا في القرآن، وأوّل ما وقعت فيه قوله :) وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ ( وهي حرف ابتداء وليست هنا جارة ل ( إذا ) ولا جملة الشرط جملة الجزاء في موضع جر وليس من شرط ) حَتَّى ( التي هي حرف ابتداء أن يكون بعدها المبتدأ، بل تكون تصلح أن يقع بعدها


الصفحة التالية
Icon