" صفحة رقم ١٤٥ "
يأكل حال من النبات، فاقتضى قول أبي البقاء أن يكون العامل في الحال محذوفاً لأنّ المجرور والظرف إذا وقعا حالين كان العامل محذوفاً. وقول أبي البقاء : هو الظاهر، وتقديره : كائناً مما يأكل، وحتى غاية، فيحتاج أن يكون الفعل الذي قبلها متطاولاً حتى تصحّ الغاية. فأما أن يقدر قبلها محذوف أي : فما زال ينمو حتى إذا، أو يتجوز في فاختلط، ويكون معناه فدام اختلاط النبات بالماء حتى إذا.
وقوله : أخذت الأرض زخرفها وازينت، جملة بديعة اللفظ جعلت الأرض آخذة زخرفها متزينة، وذلك على جهة التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون، فاكتست وتزينت بأنواع الحلى، فاستعير الأخذ وهو التناول باليد لاشتمال نبات الأرض على بهجة ونضارة وأثواب مختلفة، واستعير لتلك البهجة والنضارة والألوان المختلفة لفظة الزخرف وهو الذهب، لما كان من الأشياء البهجة المنظر السارة للنفوس. وازينت أي : بنباتها وما أودع فيه من الحبوب والثمار والأزهار، ويحتمل أن يكون قوله : وازينت تأكيداً لقوله : أخذت الأرض زخرفها. واحتمل أن لا يكون تأكيداً، إذ قد يكون أخذ الزخرف لا لقصد التزيين، فقيل : وازينت ليفيد أنها قصدت التزيين. ونسبة الأخذ إلى الأرض والتزيين من بديع الاستعارة. وقرأ الجمهور : وازينت وأصله وتزينت، فأدغمت التاء في الزاي فاجتلبت همزة الوصل لضرورة تسكين الزاي عند الإدغام. وقرأ أبي وعبد الله، وزيد بن علي، والأعمش : وتزينت على وزن تفعلت. وقرأ سعد بن أبي وقاص، وأبو عبد الرحمن، وابن يعمر، والحسن، والشعبي، وأبو العالية، وقتادة، ونصر بن عاصم، وابن هرمز، وعيسى الثقفي : وأزينت على وزن أفعلت، كأحصد الزرع أي حضرت زينتها وحانت. وصحت الياء فيه على جهة الندور، كأعبلت المرأة. والقياس : وأزانت، كقولك وأبانت. وقرأ أبو عثمان النهدي بهمزة مفتوحة بوزن افعألت، قاله عنه صاحب اللواح قال : كأنه كانت في الوزن بوزن احكارّت، لكنهم كرهوا الجمع بين ساكنين، فحركت الألف فانقلبت همزة مفتوحة. ونسب ابن عطية هذه القراءة لفرقة فقال : وقرأت فرقة وازيأنت وهي لغة منها قال الشاعر :
إذا ما الهوادي بالعبيط احمأرَّت
وقرأ أشياخ عوف ابن أبي جميلة : وازيانت بنون مشدّدة وألف ساكنة قبلها. قال ابن عطية : وهي قراءة أبي عثمان النهدي. وقرأت فرقة : وازّاينت، والأصل وتزاينت فأدغم، والظن هنا على بابه من ترجيح أحد الجائزين. وقيل : بمعنى أيقنوا وليس بسديد، ومعنى القدرة عليها التمكن من تحصيلها ومنفعتها ورفع غلتها، وذلك لحسن نموها وسلامتها من العاهات. والضمير في أهلها عائد على الأرض، وهو على حذف مضاف أي : أهل نباتها. وقيل : الضمير عائد على الغلة. وقيل : على الزينة، وهو ضعيف. وجواب إذا قوله : أتاها أمرنا كالريح والصر والسموم وغير ذلك من الآفات كالفار والجراد. وقيل : أتاها أمرنا بإهلاكها، وأبهم في قوله : ليلاً أو نهاراً، وقد علم تعالى متى يأتيها أمره، أو تكون أو للتنويع، لأنّ بعض الأرض يأتيها أمره تعالى ليلاً وبعضها نهاراً، ولا يخرج كائن عن وقوعه فيهما. والحصيد : فعيل بمعنى مفعول أي : المحصود، ولم يؤنث كما لم تؤنث امرأة جريج. وقال أبو عبيدة : الحصيد المستأصل انتهى. وعبر بحصيد عن التألف استعارة، جعل ما هلك من الزرع بالآفة قبل أوانه حصيداً العلامة ما بينهما من الطرح على الأرض. وقيل : يجوز أن تكون تشبيهاً بغير الأداة والتقدير : فجعلناها كالحصيد. وقوله : كأن لم تغن بالأمس، مبالغة في التلف والهلاك حتى كأنها لم توجد قبل، ولم يقم بالأرض بهجة خضرة