" صفحة رقم ٢١٤ "
جرم، ولا عن جرم، ولا ذا جر، والله بغير ميم لا أفعل ذاك. وحكى بعضهم بغير لا جرم : أنك أنك فعلت ذاك، وعن أبي عمرو : لأجرم أنّ لهم النار على وزن لا كرم، ولا جر حذفوه لكثرة الاستعمال كما قالوا : سو ترى يريدون سوف ترى. ولما كان خسران النفس أعظم الخسران، حكم عليهم بأنهم هم الزائدون في الخسران على كل خاسر من سواهم من العصاة مآله إلى الراحة، وإلى انقطاع خسرانه بخلاف هؤلاء، فإنّ خسرانهم لا انقطاع له.
( إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبّهِمْ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالاْعْمَى وَالاْصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ( : لما ذكر ما يؤول إليه الكفار من النار، ذكر ما يؤول إليه المؤمنون من الجنة، والفريقان هنا الكافر والمؤمن. ولما كان تقدم ذكر الكفار وأعقب بذكر المؤمنين، جاء التمثيلم هنا مبتدأ بالكافر فقال : كالأعمى والأصم. ويمكن أن يكون من باب تشبيه اثنين باثنين، فقوبل الأعمى بالبصير وهو طباق، وقوبل الأصم بالسميع وهو طباق أيضاً، والعمى والصمم آفتان تمنعان من البصر والسمع، وليستا بضدّين، لأنه لا تعاقب بينهما. ويحتمل أن يكون من تشبيه واحد بوصفيه بواحد بوصفيه، فيكون من عطف الصفات كما قال الشاعر : إلى الملك القرن وابن الهمام
وليث الكريهة في المزدحم
ولم يجيء التركيب كالأعمى والبصير والأصم والسميع فيكون مقابلة في لفظ الأعمى وضده، وفي لفظة الأصم وضده، لأنه تعالى لما ذكرانسداد العين أتبعه بانسداد السمع، ولما ذكر انفتاح البصر أتبعه بانفتاح السمع، وذلك هو الأسلوب في المقابلة، والأتم في الإعجاز. ويأتي إن شاء الله تعالى نظير هذه المقابلة في قوله في طه :) إِنَّ لَكَ أَن لا تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تَضْحَى ( واحتمل أنْ تكون الكاف نفسها هي خبر المبتدأ، فيكون معناها معنى المثل، فكأنه قيل : مثل الفريقين مثل الأعمى. واحتمل أن يراد بالمثل الصفة، وبالكاف مثل، فيكون على حذف مضاف أي : كمثل الأعمى، وهذا التشبيه تشبيه معقول بمحسوس، فأعمى البصيرة أصمها، شبه بأعمى البصر أصم السمع، ذلك في ظلمات الضلالات متردد تائه، وهذا في الطرقات محير لا يهتدي إليها. وجاء أفلا تذكرون لينبه على أنه يمكن زوال هذا العمى وهذا الصمم المعقول، فيجب على العاقل أن يتذكر ما هو فيه، ويسعى في هداية نفسه. وانتصب مثلاً على التمييز، قال ابن عطية : ويجوز أن يكون حالاً انتهى. وفيه بعد، والظاهر التمييز وأنه منقول من الفاعل أصله : هل يستوي مثلاهما.
( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فَقَالَ الْمَلا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَادَ لَنَا بَادِىَ الرَّأْى وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ( : هذه السورة في قصصها شبيهة بسورة الأعراف بدىء فيها بنوح، ثم يهود، ثم بصالح، ثم بلوط، مقدّماً عليه إبراهيم بسبب قوم لوط، ثم بشعيب، ثم بموسى وهارون، صلى الله على نبينا وعليهم أجمعين. وذكروا وجوه حكم وفوائد لتكرار هذه القصص في القرآن.
وقرأ النحويان وابن كثير : أني بفتح الهمزة أي : بأبي، وباقي السبعة بكسرها على إضمار القول. وقال أبو علي في قراءة الفتح : خروج من الغيبة إلى المخاطبة، قال ابن عطية : وفي هذا نظر، وإنما هي حكاية مخاطبة لقومه وليس هذا حقيقة الخروج من غيبة إلى مخاطبة، ولو كان الكلام أنْ أنذرهم أو نحوه لصح ذلك انتهى. وأنْ لا تعبدوا إلا الله ظاهر في أنهم كانوا يعبدون الأوثان كما جاء مصرّحاً في غير هذه السورة، وأن بدل من أي لكم في قراءة من فتح، ويحتمل أن تكون أنْ المفسرة. وأما في قراءة من كسر فيحتمل أن تكون المفسرة، والمراعى قبلها : أما


الصفحة التالية
Icon