" صفحة رقم ٣٥٥ "
كذا وكذا. قال ابن عطية : وقوله مد الأرض، يقتضي أنها بسيطة لا كرة، وهذا هو ظاهر الشريعة. قال أبو عبد الله الداراني : ثبت بالدليل أنّ الأرض كرة، ولا ينافي ذلك قوله : مد الأرض، وذلك أنّ الأرض جسم عظيم. والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان قطعة منها تشاهد كالسطح، والتفاوت بينه وبين السطح لا يحصل إلا في علم الله تعالى. ألا ترى أنه قال :) وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً ( مع أن العالم والناس يسيرون عليها فكذلك هنا. وأيضاً إنما ذكر مد الأرض ليستدل به على وجود الصانع، وكونها مجتمعة تحت البيت أمر غير مشاهد ولا محسوس، فلا يمكن الاستدلال به على وجود الصانع. فتأويل مد الأرض أنه جعلها بمقدار معين، وكونها تقبل الزيادة والنقص أمر جائز ممكن في نفسه، فالاختصاص بذلك المقدار المعين لا بد أن يكون بتخصيص مخصص، وتقدير مقدر، وبهذا يحصل الاستدلال على وجود الصانع انتهى. ملخصاً. وقال أبو بكر الأصم : المد البسط إلى ما لا يرى منتهاه، فالمعنى : جعل الأرض حجماً يسيراً لا يقع البصر على منتهاه، فإن الأرض لو كانت أصغر حجماً مما هي الآن عليه لما كمل الانتفاع به انتهى. وهذا الذي ذكره من أنها لو كانت أصغر إلى آخره غير مسلم، لأن المنتفع به من الأرض المعمور، والمعمور أقل من غير المعمور بكثير. فلو أراد تعالى أن يجعلها مقدار المعمور المنتفع به لم يكن ذلك ممتنعاً، فتحصل في قوله : مد الأرض ثلاث تأويلات بسطها بعد أن كانت مجتمعة، واختصاصها بمقدار معين وجعل حجمها كبيراً لا يرى منتهاه. والرواسي الثوابت، ومنه قول الشاعر : به خالدات ما يرمن وهامد
وأشعت أرسته الوليدة بالقهر
والمعنى : جبالاً رواسي، وفواعل الوصف لا يطرد إلا في الإناث، إلا أنّ جمع التكسير من المذكر الذي لا يعقل يجري مجرى جمع الإناث. وأيضاً فقد غلب على الجبال وصفها بالرواسي، وصارت الصفة تعني عن الموصوف، فجمع جمع الإسم كحائط وحوائط وكاهل وكواهل. وقيل : رواسي جمع راسية، والهاء للمبالغة، وهو وصف الجبل. كانت الأرض مضطربة فثقلها الله بالجبال في أحيازها فزال اضطرابها، والاستدلال بوجود الجبال على وجود الصانع القادر الحكيم. قيل : من جهة أنّ طبيعة الأرض واحدة، فحصول الجبل في بعض جوانبها دون بعض لا بد أن يكون بتخليق قادر حكيم، ومن جهة ما يحصل منها من المعادن الجوهرية والرخامية وغيرها كالنفط والكبريت يكون الجبل واحداً في الطبع، وتأثير الشمس واحد دليل على أنّ ذلك بتقدير قاد قاهر متعالى عن مشابهة الممكنات، ومن جهة تولد الأنهار منها. وقيل : وذلك لأنّ الجبل جسم صلب، ويتصاعد بخاره من قعر الأرض إليه ويحتب هناك، فلا يزال يتكامل فيه فيحصل بسببه مياه كثيرة، فلقوتها تشق وتخرج وتسيل على وجه الأرض، ولهذا في أكثر الأمر إذا ذكر الله تعالى الجبال ذكر الأنهار كهذه الآية. وكقوله :) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتاً ( ) وَأَلْقَى فِى الاْرْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً ( فقال المفسرون : الأنهار المياه الجارية في الأرض. وقال الكرماني : مسيل الماء، وتقدم الكلام في الأنهار في أوائل سورة البقرة. والظاهر أنّ قوله : من كل الثمرات متعلق بجعل. ولما ذكر الأنهار ذكر ما ينشأ عنها وهو الثمرات، والزوج هنا الصنف الواحد الذي هو نقيض الاثنين، يعني أنه حين مد الأرض جعل ذلك، ثم تكثرت وتنوعت. وقيل : أراد بالزوجين الأسود والأبيض، والحلو والحامض، والصغير والكبير، وما أشبه ذلك من الأصناف المختلفة. وقال ابن عطية : وهذه الآية تقتضي أن كل ثمرة موجود فيها نوعان، فإن اتفق أن يوجد من ثمرة أكثر من نوعين فغير ضار في معنى الآية. وقال الكرماني : الزوج واحد، والزوج اثنان، ولهذا قيد ليعلم أنّ المراد بالزوج هنا الفرد لا التثنية، فيكون أربعاً. وخص اثنين بالذكر، وإن كان من أجناس الثمار ما يزيد على ذلك لأنه الأقل، إذ لا


الصفحة التالية
Icon