" صفحة رقم ١٨٤ "
ً فهو حال من فاعل ) وَاهْجُرْنِى ). قال ابن عطية : وتلخيص هذا أن يكون بمعنى قوله مستنداً بحالك غنياً عني ) مَلِيّاً ( بالاكتفاء. وقال السدي : معناه أبداً. ومنه قول مهلهل : فتصدعت صم الجبال لموته
وبكت عليه المرملات ملياً
وقال ابن جبير : دهر، وأصل الحرف المكث يقال : تمليت حيناً. وقال الزمخشري : أو ) مَلِيّاً ( بالذهاب عني والهجران قبل أن أثخنك بالضرب حتى لا تقدر أن تبرخ فلان ملي بكذا إذا كان مطيقاً له مضطلعاً به انتهى.
مريم :( ٤٧ ) قال سلام عليك.....
( قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ). قرأ أبو البرهثيم : سلاماً بالنصب. قال الجمهور : هذا بمعنى المسالمة لا بمعنى التحية، أي أمنة مني لك وهؤلاء لا يرون ابتداء الكافر بالسلام. وقال النقاش حليم : خاطب سفيهاً كقوله ) وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ). وقيل : هي تحية مفارق، وجوز قائل هذا تحية الكافر وإن يبدأ بالسلام المشروع وهو مذهب سفيان بن عيينة مستدلاً بقوله تعالى ) لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ ( الآية وبقوله ) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْراهِيمَ ( الآية.
و ) قَالَ ( إبراهيم لأبيه ) سَلَامٌ عَلَيْكَ ( وما استدل به متأول، ومذهبهم محجوج بما ثبت في صحيح مسلم :( لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام ) ورفع ) سَلَامٌ ( على الابتداء ونصبه على المصدر، أي سلمت سلاماً دعاء له بالسلامة على سبيل الاستمالة، ثم وعده بالاستغفار وذلك يكون بشرط حصول ما يمكن معه الاستغفار وهو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة، وهذا كما يرد الأمر والنهي على الكافر ولا يصح الامتثال إلاّ بشرط الإيمان. ومعنى ) سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ( أدعو الله في هدايتك فيغفر لك بالإيمان ولا يتأول على إبراهيم عليه السلام أنه لم يعلم أن الله لا يغفر لكافر. قال ابن عطية : ويجوز أن يكون إبراهيم عليه السلام أول نبيّ أوحي إليه أن الله لا يغفر لكافر لأن هذه الطريقة إنما طريقها السمع، وكانت هذه المقالة منه لأبيه قبل أن يوحى إليه، وذلك أنه إنما تبين له في أبيه أنه عدو لله بأحد وجهين : إما بموته على الكفر كما روي، وإما أن يوحي إليه الحتم عليه.
وقال الزمخشري : ولقائل أن يقول الذي يمنع من الاستغفار للكافر إنما هو السمع، فأما القضية العقلية فلا تأباه، فيجوز أن يكون الوعد بالاستغفار والوفاء به قبل ورود السمع بناء على قضية العقل، والذي يدل على صحته قوله تعالى ) إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لاِبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ( فلو كان شارطاً للإيمان لم يكن مستنكراً ومستثنى عما وجبت فيه الأسرة. وقول من قال إنما استغفر له لأنه وعده أن يؤمن من مستدلاً بقوله ) إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ( فجعل الواعد آزر والموعود إبراهيم عليه السلام ليس بجيد لاعتقابه في هذه الآية الوعد بالاستغفار بعد ذلك القول الجافي من قوله ) لَئِن لَّمْ تَنتَهِ ( الآية. فكيف يكون وعده بالإيمان ؟ ولأن الواعد هو إبراهيم ويدل عليه قراءة حماد الراوية وعدها إياه.
والحفي المكرم المحتفل الكثير البر والألطاف، وتقدم شرحه لغة في قوله ) كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا ). وقال ابن عباس : رحيماً. وقال الكلبي : حليماً. وقال القتبي : باراً. وقال السدي : حفيك من يهمه أمرك، ولما كان في قوله ) لارْجُمَنَّكَ ( فظاظة وقساوة قلب قابله بالدعاء له بالسلام والأمن ووعده بالاستغفار قضاء لحق الأبوة، وإن كان قد صدر منه إغلاظ.
مريم :( ٤٨ ) وأعتزلكم وما تدعون.....
ولما أمره بهجره الزمان الطويل أخبره بأنه يتمثل أمره ويعتزله وقومه ومعبوداتهم، فهاجر إلى الشام قيل أو إلى حران وكانوا بأرض كوثاء، وفي هجرته هذه تزوج سارة ولقي الجبار الذي أخدم سارة هاجر، والأظهر أن قوله


الصفحة التالية
Icon