" صفحة رقم ١٩٢ "
الشيء وعداه ولا يكون مطاوعاً فيكون تنزل في معنى نزل. كما قال الشاعر : فلست لأنسى ولكن لملاك
تنزل من جو السماء يصوب
وقال الزمخشري : التنزل على معنيين : معنى النزول على مهل، ومعنى النزول على الإطلاق. كقوله :
فلست لأنسى البيت
لأنه مطاوع نزّل ونزّل يكون بمعنى أنزل وبمعنى التدريج واللائق بهذا الموضع هو النزول على مهل، والمراد أن نزولنا في الأحايين وقتاً غبّ وقت انتهى.
وقال ابن عطية : وهذه الواو التي في قوله ) وَمَا نَتَنَزَّلُ ( هي عاطفة جملة كلام على أخرى واصلة بين القولين، وإن لم يكن معناهما واحداً. وحكى النقاش عن قوم أن قوله و ) مَا نَتَنَزَّلُ ( متصل بقوله ) إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لاِهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً ( وهذا قول ضعيف انتهى.
والذي يظهر في مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر قصة زكريا ومريم وذكر إبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس ثم ذكر أنهم أنعم تعالى عليهم وقال ) وَمِن ذُرّيَّةِ إِبْراهِيمَ ( وكان رسول الله ( ﷺ ) ) من ذرية إبراهيم، وذكر تعالى أنه خلف بعد هؤلاء خلف وهم اليهود والنصارى أصحاب الكتب لأن غيرهم لا يقال فيهم أضاعوا الصلاة إنما يقال ذلك فيمن كانت له شريعة فرض عليهم فيها الصلاة بوحي من الله تعالى، وكان اليهود هم سبب سؤال قريش للنبيّ ( ﷺ ) ) تلك المسائل الثلاث، وأبطأ الوحي عنه ففرحت بذلك قريش واليهود وكان ذلك من اتباع شهواتهم، هذا وهم عالمون بنبوّة رسول الله ( ﷺ ) ) فأنزل الله تعالى ) وَمَا نَتَنَزَّلُ ( تنبيهاً على قصة قريش واليهود، وأن أصل تلك القصة إنما حدثت من أولئك الخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وختماً لقصص أولئك المنعم عليهم لمخاطبة أشرفهم محمد ( ﷺ ) ) واستعذاراً من جبريل عليه السلام للرسول بأن ذلك الإبطاء لم يكن منه إذ لا يتنزل إلاّ بأمر الله تعالى، ولما كان إبطاء الوحي سببه قصة السؤال وكونه ( ﷺ ) ) لم يقرن أن يجيبهم بالمشيئة، وكان السؤال متسبباً عن اتباع اليهود شهواتهم وخفيات خبثهم اكتفى بذكر النتيجة المتأخرة عن ذكر ما آثرته شهواتهم الدنيوية وخبثهم.
قال أبو العالية : ما بين الأيدي الدنيا بأسرها إلى النفخة الأولى، وما خلف ذلك الآخرة من وقت البعث، وما بين ذلك ما بين النفختين. قال ابن عطية : وقول أبي العالية إنما يتصور في بني آدم، وهذه المقالة هي للملائكة فتأمله. وقال ابن جريج : ما بين الأيدي هو ما مر من الزمان قبل الإيجاد، وما خلف هو ما بعد موتهم إلى استمرار الآخرة، وما بين ذلك هو مدة الحياة. وفي كتاب التحرير والتحبير ) مَا بَيْنَ أَيْدِينَا ( الآخرة ) وَمَا خَلْفَنَا ( الدنيا رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير وقتادة ومقاتل وسفيان. وقال مجاهد : عكسه. وقال الأخفش :) مَا بَيْنَ أَيْدِينَا ( قبل أن نخلق ) وَمَا خَلْفَنَا ( بعد الفناء ) وَمَا بَيْنَ ذالِكَ ( ما بين الدنيا والآخرة. وقال مجاهد وعكرمة وأبو العالية : ما بين النفختين. وقال الأخفش : حين كوننا. وقال صاحب الغينان :) مَا بَيْنَ أَيْدِينَا ( نزول الملائكة من السماء، ( وَمَا خَلْفَنَا ( من الأرض ) وَمَا بَيْنَ ذالِكَ ( ما بين السماء والأرض. قال ابن القشيري مثل قول ابن جريج، ثم قال : حصر الأزمنة الثلاثة وهي أن كلها لله هو منشئها ومدبر أمرها على ما يشاء من تقديم إنزال وتأخيره انتهى. وفيه بعض تلخيص وتصرف.
وقال ابن عطية : إنما القصد الإشعار بملك الله تعالى لملائكته، وأن قليل تصرفهم وكثيره إنما هو بأمره وانتقالهم من مكان إلى مكان إنما هو بحكمته إذ الأمكنة له وهم له، فلو ذهب بالآية إلى أن المراد بما بين الأيدي وما خلف الأمكنة التي فيها تصرفهم والمراد بما بين ذلك هم أنفسهم ومقاماتهم لكان وجهاً كأنه قال : نحن مقيدون بالقدرة لا ننتقل ولا نتنزل إلاّ بأمر ربك انتهى. وما قاله فيه ابن عطية له إلى آخره ذهب إلى نحوه الزمخشري قال له : ما قدامنا وما خلفنا من الجهات والأماكن. وما بين


الصفحة التالية
Icon