" صفحة رقم ٢٥١ "
بأحدهما، حيث جوز هذا وجوز هذا، ولم يجزم بأنه افتراء محض، احترازاً من أن ينسب الكذب لعاقل نسبة قطعية، إذا العاقل حتى الكافر لا يرضى بالكذب، لا من نفسه ولا من غيره، وأضرب تعالى عن مقالتهم، والمعنى : ليس للرسول كما نسبتم ألبتة، بل أنتم في عذاب النار، أو في عذاب الدنيا بما تكابدونه من إبطال الشرع وهو بحق، وإطفاء نور الله وهو متم.
ولما كان الكلام في البعث قال :) بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَةِ (، فرتب العذاب على إنكار البعث، وتقدم الكلام في وصف الضلال بالبعد، وهو من أوصاف المحال استعير للمعنى، ومعنى بعده : أنه لا ينقضي خبره المتلبس به. ) أَفَلَمْ يَرَوْاْ ( : أي هؤلاء الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة، ( إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ( : أي حيث ما تصرفوا، فالسماء والأرض قد أحاطتا بهم، ولا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما، ولا يخرجوا عن ملكوت الله فيهما. وقال الزمخشري : أعموا فلم ينظروا، جعل بين الفاء والهمزة فعلاً يصح العطف عليه، وهو خلاف ما ذهب إليه النحويون من أنه لا محذوف بينهما، وأن الفاء للعطف على ما قبل همزة الاستفهام، وأن التقدير فالم، لكن همزة الاستفهام لما كان لها الصدر قدمت، وقد رجع الزمخشري إلى مذهب النحويين في ذلك، وقد رددنا عليه هذا المذهب فيما كتبناه في ( شرح التسهيل ). وقفهم تعالى على قدرته الباهرة، وحذرهم إحاطتها بهم على سبيل الإهلاك لهم، وكان ثم حال محذوفة، أي أفلا يرون إلى ما يحيط بهم من سماء وأرض مقهور تحت قدرتنا نتصرف فيه كما نريد ؟
) إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الاْرْضَ (، كما فعلنا بقارون، ( أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السَّمَاء (، كما فعلنا بأصحاب الظلة، أو ) أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ( محيطاً بهم، وهم مقهورون تحت قدرتنا ؟ ) إِنَّ فِى ذَلِكَ ( النظر إلى السماء والأرض، والفكر فيهما، وما يدلان عليه من قدرة الله، ( لآيَةً ( : لعلامة ودلالة، ( لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ( : راجع إلى ربه، مطيع له. قال مجاهد : مخبت. وقال الضحاك : مستقيم. وقال أبو روق : مخلص في التوحيد. وقال قتادة : مقبل إلى ربه بقلبه، لأن المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله على أنه قادر على كل شيء من البعث ومن عقابه من يكفر به. وقرأ الجمهور : إن نشأ نخسف ونسقط بالنون في الثلاثة ؛ وحمزة والكسائي، وابن وثاب، وعيسى، والأعمش، وابن مطرف : بالياء فيهن ؛ وأدغم الكسائي الفاء في الباء في نخسف بهم. قال أبو علي : وذلك لا يجوز، لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء، فلا تدغم فيها، وإن كانت الباء تدغم في الفاء، نحو : اضرب فلاناً، وهذا ما تدغم الباء في الميم، كقولك : اضرب مالكاً، ولا تدغم الميم في الباء، كقولك : اصمم بك، لأن الباء انحطت عن الميم بفقد الغنة التي في الميم. وقال الزمخشري : وقرأ الكسائي نخسف بهم، بالإدغام، وليست بقوية. انتهى. والقراءة سنة متبعة، ويوجد فيها الفصيح والأفصح، وكل ذلك من تيسيرة تعالى القرآن للذكر، فلا التفات لقول أبي علي ولا الزمخشري.
( وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودُ مِنَّا فَضْلاً ياجِبَالُ جِبَالٍ أَوّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدّرْ فِى السَّرْدِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلِسُلَيْمَانَ الرّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِير ( سقط : يعملون له ما يشاء إلى نهاية الآية ) ِ ).


الصفحة التالية
Icon