" صفحة رقم ٤١٧ "
الوعد بالغفران، ثم وصف نفسه بما سبق في الجملتين من الرحمة والغفران بصفتي المبالغة، وأكد بلفظ هو المقتضي عند بعضهم الحصر. وقال الزمخشري :) إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً (، شرط التوبة. وقد تكرر ذكر هذا الشرط في القرآن، فكان ذكره فيما ذكر فيه ذكراً له فيما لم يذكر فيه، لأن القرآن في حكم كلام واحد، ولا يجوز فيه التناقض. انتهى، وهو على طريقة المعتزلة في أن المؤمن العاصي لا يغفر له إلا بشرط التوبة.
ولما كانت هذه الآية فيها فسحة عظيمة للمسرف، أتبعها بأن الإنابة، وهي الرجوع، مطلوبة مأمور بها. ثم توعد من لم يتب بالعذاب، حتى لا يبقى المرء كالممل من الطاعة والمتكل على العفران دون إنابة. وقال الزمخشري : وإنما ذكر الإنابة على إثر المغفرة، لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة، وللدلالة على أنها شرط فيها لازم لا تحصل بدونه. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال.
( وَاتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ (، مثل قوله :) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ (، وهو القرآن، وليس المعنى أن بعضاً أحسن من بعض، بل كله حسن. ) مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً (، أي فجأة، ( وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ( : أي وأنتم غافلون عن حلوله بكم، فيكون ذلك أشد في عذابكم.
( أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحَسْرَتَى ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِى لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءتْكَ ءايَاتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْمُتَكَبّرِينَ وَيُنَجّى اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَىْء وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْء وَكِيلٌ لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ).
روي أنه كان في بني إسرائيل عالم ترك علمه وفسق، أتاه إبليس فقال له : تمتع من الدنيا ثم تب، فأطاعه وأنفق ماله في الفجور. فأتاه ملك الموت في ألذ ما كان، فقال :) أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ (، وذهب عمري في طاعة الشيطان، وأسخطت ربي، فندم حين لا ينفعه، فأنزل الله خبره. ) أَن تَقُولَ ( : مفعول من أجله، فقدره ابن عطية : أي أنيبوا من أجل أن تقول. وقال الزمخشري : كراهة أن تقول، والحوفي : أنذرناكم مخافة أن تقول، ونكر نفس لأنه أريد بها بعض الأنفس، وهي نفس الكافر، أو أريد الكثير، كما قال الأعشى : ورب نفيع لو هتفت لنحوه
أتاني كريم ينقض الرأسى مغضبا
يريد أفواجاً من الكرام ينصرونه، لا كريماً واحداً ؛ أو أريد نفس متميزة من الأنفس بالفجاج الشديد في الكفر، أو بعذاب عظيم. قال هذه المحتملات الزمخشري، والظاهر الأول. وقرأ الجمهور : يا حسرتا، بإبدال ياء المتكلم ألفاً، وأبو جعفر : يا حسرتا، بياء الإضافة، وعنه : يا حسرتي، بالألف والياء جمعاً بين العوض والمعوض، والياء مفتوحة أو سانة. وقال أبو الفضل الرازي في تصنيفه ( كتاب اللوامح ) : ولو ذهب إلى أنه أراد تثنية الحسرة مثل لبيك وسعديك، لأن معناهما لب بعد لب وسعد بعد سعد، فكذلك هذه الحسرة بعد حسرة، لكثرة حسراتهم يومئذ ؛ أو أراد حسرتين فقط من قوت الجنة لدخول النار، لكان مذهباً، ولكان ألف التثنية في تقدير الياء على لغة بلحرث بن كعب. انتهى. وقرأ ابن كثير في الوقف : يا حسرتاه، بهاء السكت. قال سيبويه : ومعنى نداء الحسرة والويل : هذا وقتك فاحضري. والجنب : الجانب، ومستحيل على الله الجارحة، فإضافة الجنب إليه مجاز. قال مجاهد، والسدي : في أمر الله. وقال الضحاك : في ذكره، يعني القرآن والعمل به.