" صفحة رقم ٤٤٥ "
وفي الحديث :( إن للناس جولة يوم القيامة يندّون )، يظنون أنهم يجدون مهرباً ؛ ثم تلا :) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ (، قال مجاهد : معناه فارين. وقال السدّي :) مَا لَكُمْ مّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ( في فراركم حتى تعذبوا في النار. وقال قتادة : ما لكم في الانطلاق إليها من عاصم، أي مانع، يمنعكم منها، أو ناصر. ولما يئس المؤمن من قبولها قال :) وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ). ثم أخذ يوبخهم على تكذيب الرسل، بأن يوسف قد جاءهم بالبينات. والظاهر أنه يوسف بن يعقوب، وفرعون هو فرعون موسى، وروى أشهب عن مالك أنه بلغه أن فرعون عمر أربعمائة سنة وأربعين سنة. وقيل : بل الجائي إليهم هو يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب، وأن فرعون هو فرعون، غير فرعون موسى. و ) بِالْبَيِّنَاتِ ( : بالمعجزات. فلم يزالوا شاكين في رسالته كافرين، حتى إذا توفى، ( قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً ). وليس هذا تصديقاً لرسالته، وكيف وما زالوا في شك منه، وإنما المعنى : لا رسول من عند الله فيبعثه إلى الخلق، ففيه نفي الرسول، ونفي بعثته. وقرىء : ألن يبعث، بإدخال همزة الاستفهام على حرف النفي، كأن بعضهم يقرر بعضاً على نفي البعثة. ) كَذالِكَ ( : أي مثل إضلال الله إياكم، أي حين لم تقبلوا من يوسف، ( يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ ( : يعنيهم، إذ هم المسرفون المرتابون في رسالات الأنبياء.
وجوزوا في ) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ ( أن تكون صفة لمن، وبدلاً منه : أي معناه جمع ومبتدأ على حذف مضاف، أي جدال الذين يجادلون، حتى يكون الضمير في ) كَبُرَ ( عائداً على ذلك أولاً، أو على حذف مضاف، والفاعل بكبر ضمير يعود على الجدل المفهوم من قوله :) يُجَادِلُونَ (، أو ضمير يعود على من على لفظها، على أن يكون الذين صفة، أو بدلاً أعيد أولاً على لفظ من في قوله :) هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ). ثم جمع الذين على معنى من، ثم أفرد في قوله :) كَبُرَ ( على لفظ من. وقال الزمخشري : ويحتمل أن يكون ) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ ( مبتدأ وبغير ) سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ( خبراً، وفاعل ) كَبُرَ ( قوله :) كَذالِكَ (، أي ) كَبُرَ مَقْتاً ( مثل ذلك الجدال، و ) يَطْبَعُ اللَّهُ كَلاَمَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ ( جدالهم، فقد حذف الفاعل، والفاعل لا يصح حذفه. انتهى، وهذا الذي أجازه لا يجوز أن يكون مثله في كلام فصيح، فكيف في كلام الله ؟ لأن فيه تفكيك الكلام بعضه من بعض، وارتكاب مذهب الصحيح خلافه. أما تفكيك الكلام، فالظاهر أن بغير سلطان متعلق بيجادلون، ولا يتعقل جعله خبراً للذين، لأنه جار ومجرور، فيصير التقدير :) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِىءايَاتِ اللَّهِ ( : كائنونن، أو مستقرون، ( بِغَيْرِ سُلْطَانٍ (، أي في غير سلطان، لأن الباء إذا ذاك ظرفية خبر عن الجثة، وكذلك في قوله يطبع أنه مستأنف فيه تفكيك الكلام، لأن ما جاء في القرآن من ) كَذَلِكَ يَطْبَعُ (، أو نطبع، إنما جاء مربوطاً بعضه ببعض، فكذلك هنا. وأما ارتكاب مذهب الصحيح خلافه، فجعل الكاف اسماً فاعلاً بكبر، وذلك لا يجوز على مذهب البصريين إلا الأخفش، ولم يثبت في كلام العرب، أعني نثرها : جاءني كزيد، تريد : مثل زيد، فلم تثبت اسميتها، فتكون فاعلة.
وأما قوله : ومن قال لي آخره، فإنّ قائل ذلك وهو الحوفي، والظن به أنه فسر المعنى ولم يرد الإعراب. وأما تفسير الإعراب أن الفاعل بكبر ضمير يعود على الجدال المفهوم من يجادلون، كما قالوا : من كذب كان شراً له، أي كان هو، أي الكذب المفهوم من كذب. والأولى في إعراب هذا الكلام أن يكون الذين مبتدأ وخبره كبر، والفاعل ضمير المصدر المفهوم من يجادلون، وهذه الصفة موجودة في فرعون وقومه، ويكون الواعظ لهم قد عدل عن مخاطبتهم إلى الاسم الغائب، لحسن محاورته لهم واستجلاب قلوبهم، وإبراز ذلك في صورة تذكيرهم، ولا يفجأهم بالخطاب. وفي قوله :) كَبُرَ مَقْتاً ( ضرب من التعجب والاستعظام لجدالهم والشهادة على خروجه عن حدّ إشكاله من الكبائر. ) كَذالِكَ ( : أي مثل ذلك الطبع على قلوب المجادلين، ( يَطْبَعُ اللَّهُ ( : أي يحتم بالضلالة ويحجب عن الهدى. وقرأ أبو عمرو بن ذكوان، والأعرج، بخلاف عنه : قلب بالتنوين، وصف القلب بالتكبر والجبروت، لكونه مركزهما ومنبعهما، كما يقولون : رأت العين، وكما قال :) وَإِن كُنتُمْ عَلَى (، والإثم : الجملة،


الصفحة التالية
Icon