" صفحة رقم ٤٧٧ "
يجني عليّ وأجنو صافحاً أبدا
لا شيء أحسن من جان على جان
) وَمَا يُلَقَّاهَا ( : الضمير عائد على الفعلة والسجية التي هي الدفع بالأحسن. وقرأ طلحة بن مصرف، وابن كثير في رواية : وما يلاقاها : من الملاقاة. وقرأ الجمهور : من التلقي، وكأن هذه الخصلة الشريفة غائبة، فما يصادفها ويلقيها الله إلا لمن كان صابراً على الطاعات، صارفاً عن الشهوات، ذا حظ عظيم من خصال الخير، قاله ابن عباس، فيكون مدحاً ؛ أو ) ذُو حَظّ عَظِيمٍ ( من ثواب الآخرة، قاله قتادة، فيكون وعداً. وقيل : إلا ذو عقل. وقيل : ذو خلق حسن، وكرر ) وَمَا يُلَقَّاهَا ( تأكيداً لهذه الفعلة الجميلة الجليلة. وقيل : الضمير في يلقاها عائد على الجنة. وحكى مكي :) وَمَا يُلَقَّاهَا ( : أي شهادة أن لا إله إلا الله، وفيه بعد.
ولما أمر تعالى بدفع السيئة بالأحسن، كان قد يعرض للمسلم في بعض الأوقات مقابلة من أساء بالسيئة، فأمره، إن عرض له ذلك، أن يستعيذ بالله، فإن ذلك من نزغ الشيطان، وتقدم تفسير نظير هذه الآية في أواخر الأعراف.
ولما بين تعالى أن أحسن الأعمال والأقوال هو نظير هذه الآية الدعوة إلى الله، أردفه بذكر الدلائل العلوية والسفلية، وعلى قدرته الباهرة وحكمته البالغة وحجته القاطعة، فبدأ بذكر الفلكيات بالليل والنهار، وقدم ذكر الليل، قيل تنبيهاً على أن الظلمة عدم والنور وجود، وناسب ذكر الشمس بعد النهار، لأنها سبب لتنويره ويظهر العالم فيه، ولأنها أبلغ في التنوير من القمر، ولأن القمر فيما يقولون مستفاد نوره من نور الشمس. ثم نهى تعالى عن السجود لهما، وأمر بالسجود للخالق تعالى. وكان ناس يعبدون الشمس، كما جاء في قصة بلقيس وقومها. والضمير في ) خَلَقَهُنَّ ( عائد على الليل والنهار والشمس والقمر. قال الزمخشري : لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى، أي الإناث، يقال : الأقلام بريتها وبريتهن. انتهى، يريد ما لا يعقل من الذكر، وكان ينبغي أن يفرق بين جمع القلة من ذلك، فإن الأفصح أن يكون كضمير الواحدة، تقول : الأجذاع انكسرت على الأفصح، والجذوع انكسرن على الأفصح.
والذي تقدّم في الآية ليس بجمع قلة، أعني بلفظ واحد، ولكنه ذكر أربعة متعاطفة، فتنزلت منزلة الجمع المعبر عنها بلفظ واحد. وقال الزمخشري : ولما قال :) وَمِنْ ءايَاتِهِ (، كن في معنى الآيات، فقيل :) خَلَقَهُنَّ ). انتهى، يعني أن التقدير والليل والنهار والشمس والقمر آيات من آياته، فعاد الضمير على آيات الجمع المقدر في المجرور. وقيل : يعود على الآيات المتقدم ذكرها. وقيل : على الشمس والقمر، والاثنان جمع، وجمع ما لا يعقل يؤنث، ومن حيث يقال شموس وأقمار لاختلافهما بالأيام والليالي، ساغ أن يعود الضمير مجموعاً. ) إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ( : أي إن كنتم موحدين غير مشركين، والسجدة عند الشافعي عند قوله :) تَعْبُدُونَ (، وهي رواية مسروق عن عبد الله لذكر لفظ السجدة قبلها، وعند أبي حنيفة عند قوله :) لاَ يَسْئَمُونَ (، لأنها تمام المعنى، وفي التحرير : كان على وابن مسعود يسجدان عند ) تَعْبُدُونَ ). وقال ابن وهب والشافعي : عند ) يَسْئَمُونَ (، وبه قال أبو حنيفة، وسجد عندها ابن عباس وابن عمر وأبو وائل وبكر بن عبد الله، وكذلك روي عن مسروق والسلمي والنخعي وأبي صالح وابن سيرين. انتهى ملخصاً.
( فَإِنِ اسْتَكْبَرُواْ ( : أي تعاظموا على اجتناب ما نهيت من السجود لهذين المحدثين المربوبين، وامتثال ما أمرت به من السجود للخالق لهن ؛ فإن الملائكة الذين هم عند الله بالمكانة والرتبة الشريفة ينزهونه عن ما لا يليق بكبريائه، ( وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ ( : أي لا يملون ذلك، وهم خير منكم، مع أنه تعالى غني عن عبادتكم وعبادتهم. ولما ذكر شيئاً من الدلائل العلوية، ذكر شيئاً من الدلائل السفلية فقال :) وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الاْرْضَ خَاشِعَةً ( : أي غبراء دارسة، كما قال :
ونؤى كجذم الحوض أبلم خاشع
استعير الخشوع لها، وهو التذلل لما ظهر بها من القحط وعدم النبات وسوء العيش عنها، بخلاف أن تكون معشبة وأشجاراً مزهرة ومثمرة، فذلك هو حياتها. وقال السدّي : خاشعة ميتة يابسة، وتقدّم الكلام على قوله :) فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا