" صفحة رقم ٨١ "
الثانية فالقياس يقتضي أن يكون للزمان والمكان، أي ما شهدنا زمان هلاكهم ولا مكانة. والثالثة : تقتضي القياس أن يكون مصدراً، أي ما شهدنا هلاكه. وقال الزمخشري : وقد ذكروا القراءات الثلاثة، قال : ويحتمل المصدر والزمان والمكان. انتهى. والظاهر في الكلام حذف معطوف بدل عليه ما قبله، والتقدير : ما شهدنا مهلك أهله ومهلكه، ودل عليه قولهم :) لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ (، وما روي أنهم كانوا عزموا على قتله وقتل أهله، وحذف مثل هذا المعطوف جائز في الفصيح، كقوله : سرابيل تقيكم الحر، أي والبرد، وقال الشاعر : لما كان بين الخير لو جاء سالما
أبو حجر إلا ليال قلائل
أي بين الخير وبيني، ويكون قولهم :) وِإِنَّا لَصَادِقُونَ ( كذباً في الإخبار، أوهموا قومهم أنهم إذا قتلوه وأهله سراً، ولم يشعر بهم أحد، وقالوا تلك المقالة، أنهم صادقون وهم كاذبون. وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا فأتوا بالخبر على خلاف المخبر عنه ؟ قلت : كأنهم اعتقدوا إذا بيتوا صالحاً وبيتوا أهله، فجمعوا بين البياتين، ثم قالوا :) مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ (، فذكروا أحدهما كانوا صادقين، فإنهم فعلوا البياتين جميعاً لا أحدهما. وفي هذا دليل قاطع على أن الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه، ولا يخطر ببالهم. ألا ترى أنهم قصدوا قتل نبي الله، ولم يروا لأنفسهم أن يكونوا كاذبين حتى سوّوا الصدق في أنفسهم حيلة ينقصون بها عن الكذب ؟ انتهى.
والعجب من هذا الرجل كيف يتخيل هذه الحيل في جعل إخبارهم ) وِإِنَّا لَصَادِقُونَ ( إخباراً بالصدق ؟ وهو يعلم أنهم كذبوا صالحاً، وعقروا الناقة التي كانت من أعظم الآيات، وأقدموا على قتل نبي وأهله ؟ ولا يجوز عليهم الكذب، وهو يتلو في كتاب الله كذبهم على أنبيائهم. ونص الله ذلك، وكذبهم على من لا تخفى عليه خافية، ( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (، وهو قولهم، ( وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (، وقول الله تعالى :) انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ (، وإنما هذا منه تحريف لكلام الله تعالى، حتى ينصر مذهبه في قوله : إن الكذب قبيح عند الكفرة، ويتحيل لهم هذا التحيل حتى يجعلهم صادقين في إخبارهم. وهذا الرجل، وإن كان أوتي من علم القرآن، أوفر حظ، وجمع بين اختراع المعنى وبراعة اللفظ. ففي كتابه في التفسير أشياء منتقدة، وكنت قريباً من تسطير هذه الأحرف قد نظمت قصيداً في شغل الإنسان نفسه بكتاب الله، واستطردت إلى مدح كتاب الزمخشري، فذكرت شيئاً من محاسنه، ثم نبهت على ما فيه مما يجب تجنبه، ورأيت إثبات ذلك هنا لينتفع بذلك من يقف على كتابي هذا ويتنبه على ما تضمنه من القبائح، فقلت بعد ذكر ما مدحته به : ولكنه فيه مجال لناقد
وزلات سوء قد أخذن المخانقا
فيثبت موضوع الأحاديث جاهلا
ويعزو إلى المعصوم ما ليس لائقا
ويشتم أعلام الأئمة ضلة
ولا سيما إن أولجوه المضايقا
ويسهب في المعنى الوجيز دلالة
بتكثير ألفاظ تسمى الشقاشقا
يقول فيها الله ما ليس قائلا
وكان محباً في الخطابة وامقا


الصفحة التالية
Icon