" صفحة رقم ١٨٨ "
مورد تعديد النعم، رد الكلام إلى العطف في وصل ما يناسب وصله، والتناسب الذي بين هاتين الجملتين ظاهر، لأن الشمس والقمر علويان، والنجم والشجر سفليان.
الرحمن :( ٧ ) والسماء رفعها ووضع.....
( وَالسَّمَاء رَفَعَهَا ( : أي خلقها مرفوعة، حيث جعلها مصدر قضاياه ومسكن ملائكته الذين ينزلون بالوحي على أنبيائه، ونبه بذلك على عظم شأنه وملكه. وقرأ الجمهور :) وَالسَّمَاء (، بالنصب على الاشتغال، روعي مشاكلة الجملة التي تليه وهي ) يَسْجُدَانِ ). وقرأ أبو السمال : والسماء بالرفع، راعى مشاكلة الجملة الابتدائية. وقرأ الجمهور :) وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (، فعلاً ماضياً ناصباً الميزان، أي أقره وأثبته. وقرأ إبراهيم : ووضع الميزان، بالخفض وإسكان الضاد. والظاهر أنه كل ما يوزن به الأشياء وتعرف مقاديرها، وإن اختلفت الآلات، قال معناه ابن عباس والحسن وقتادة، جعله تعالى حاكماً بالسوية في الأخذ والإعطاء. وقال مجاهد والطبري والأكثرون : الميزان : العدل، وتكون الآلات من بعض ما يندرج في العدل. بدأ أولاً بالعلم، فذكر ما فيه أشرف أنواع العلوم وهو القرآن ؛ ثم ذكر ما به التعديل في الأمور، وهو الميزان، كقوله :) وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ (، ليعلموا الكتاب ويفعلوا ما يأمرهم به الكتاب.
الرحمن :( ٨ ) ألا تطغوا في.....
( أَن لا تَطْغَوْاْ فِى الْمِيزَانِ ( : أي لأن لا تطغوا، فتطغوا منصوب بأن. وقال الزمخشري : أو هي أن المفسرة. وقال ابن عطية : ويحتمل أن تكون أن مفسرة، فيكون تطغوا جزماً بالنهي. انتهى، ولا يجوز ما قالاه من أن أن مفسرة، لأنه فات أحد شرطيها، وهو أن يكون ما قبلها جملة فيها معنى القول. ) وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ( جملة ليس فيها معنى القول. والطغيان في الميزان هو أن يكون بالتعمد، وأما مالا يقدر عليه من التحرير بالميزان فمعفو عنه.
الرحمن :( ٩ ) وأقيموا الوزن بالقسط.....
ولما كانت التسوية مطلوبة جداً، أمر الله تعالى فقال :) وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ ). وقرأ الجمهور :) وَلاَ تُخْسِرُواْ (، من أخسر : أي أفسد ونقص، كقوله :) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ( ؛ أي ينقصون. وبلال بن أبي بردة وزيد بن علي : تخسر بفتح التاء، يقال : خسر يخسر، وأخسر يخسر بمعنى واحد، كجبر وأجبر. وحكى ابن جني وصاحب اللوامح، عن بلال : فتح التاء والسين مضارع خسر بكسر السين، وخرجها الزمخشري على أن يكون التقدير : في الميزان، فحذف الجار ونصب، ولا يحتاج إلى هذا التخريج. ألا ترى أن خسر جاء متعدياً كقوله تعالى :) خَسِرُواْ أَنفُسَهُم (، و ) خَسِرَ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةَ ( ؟ وقرىء أيضاً : تخسروا، بفتح التاء وضم السين. لما منع من الزيادة، وهي الطغيان، نهى عن الخسران الذي هو نقصان، وكرر لفظ الميزان، تشديداً للتوصية به وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه.
الرحمن :( ١٠ ) والأرض وضعها للأنام
ولما ذكر السماء، ذكر مقابلتها فقال :) وَالاْرْضَ وَضَعَهَا لِلاْنَامِ ( : أي خفضها مدحوة على الماء لينتفع بها. وقرأ الجمهور : والأرض بالنصب ؛ وأبو السمال : بالرفع. والأنام، قال ابن عباس : بنو آدم فقط. وقال أيضاً هو وقتادة وابن زيد والشعبي : الحيوان كله. وقال الحسن : الثقلان، الجن والإنس.
الرحمن :( ١١ ) فيها فاكهة والنخل.....
( فِيهَا فَاكِهَةٌ ( : ضروب مما يتفكه به. وبدأ بقوله :) فَاكِهَةٍ (، إذ هو من باب الابتداء بالأدنى والترقي إلى الأعلى، ونكر لفظها، لأن الانتفاع بها دون الانتفاع بما يذكر بعدها. ثم ثنى بالنخل، فذكر الأصل ولم يذكر ثمرتها، وهو الثمر لكثرة الانتفاع بها من ليف وسعف وجريد وجذوع وجمار وثمر.
الرحمن :( ١٢ ) والحب ذو العصف.....
ثم أتى ثالثاً بالحب الذي هو قوام عيش الإنسان في أكثر الأقاليم، وهو البر والشعير وكل ما له سنبل وأوراق متشعبة على ساقه، ووصفه بقوله :) ذُو الْعَصْفِ ( تنبيهاً على إنعامه عليهم بما يقوتهم من الحب، ويقوت بهائمهم من ورقه الذي هو التبن. وبدأ بالفاكهة وختم بالمشموم، وبينهما النخل والحب، ليحصل ما به يتفكه، وما به يتقوت، وما به تقع اللذاذة من الرائحة الطيبة. وذكر النخل باسمها، والفاكهة دون شجرها، لعظم المنفعة بالنخل من جهات متعددة، وشجرة الفاكهة بالنسبة إلى ثمرتها حقيرة، فنص على ما يعظم به الانتفاع من شجرة النخل ومن الفاكهة دون شجرتها.
وقرأ الجمهور :) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (، برفع الثلاثة عطفاً على المرفوع قبله ؛ وابن عامر وأبو حيوة وابن أبي عبلة : بنصب الثلاثة، أي وخلق الحب. وجوزوا أن يكون ) وَالرَّيْحَانُ ( حالة الرفع وحالة النصب على