صفحة رقم ٣٦
أحدهما الآخر ويصوره، ولهذا ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه، وهو أحد أقسام القرآن السبعة ولما ذكر الله تعالى حقيقة وصف المنافقين عقبه بضرب المثل زيادة في الكشف والبيان، لأنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه، ولأن المثل تشبيه الخفي بالجلي، فيتأكد الوقوف على ماهيته وذلك هو النهاية في الإيضاح، وشرطه أن يكون قولاً فيه غرابة من بعض الوجوه كمثل الذي استوقد ناراً لينتفع بها ) فلما أضاءت ( يعني النار ) ما حوله ( يعني حول المستوقد ) ذهب الله بنورهم ( فإن قلت كيف وحد أولاً ثم جمع ثانياً.
قلت يجوز وضع الذي يوضع الذي كقوله :( وخضتم كالذي خاضوا ( " وقيل إنما شبه قصتهم بقصة المستوقد، وقيل معناه مثل الواحد منهم كمثل الذي استوقد ناراً ) وتركهم في ظلمات لا يبصرون ( قال ابن عباس : نزلت في المنافقين يقول مثلهم في نفاقهم كمثل رجل أوقد ناراً في ليلة مظلمة في مفازة فاستدفأ ورأى ما حوله فاتقى مما يخاف، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فبقي في ظلمة حائراً مختوفاً، فكذلك حال المنافقين أظهروا كلمة الإيمان فأمنوا بها على أنفسهم وأموالهم وأولادهم وناكحوا المسلمين وقاسموهم في الغنائم فذلك نورهم، فلما ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف.
وقيل : ذهاب نورهم عقيدتهم للمؤمنين على لسان رسول الله ( ﷺ ).
وقيل ذهاب نورهم في القبر أو على الصراط.
فإن قلت ما وجه تشبيه الإيمان بالنور والكفر بالظلمة ؟ قلت : وجه تشبيه الإيمان بالنور أن النور أبلغ الأشياء في الهداية إلى المحجة القصوى وإلى الطريق المستقيم وإزالة الحيرة وكذلك الإيمان هو الطريق الواضح إلى الله تعالى وإلى جنانه، وشبه الكفر بالظلمة لأن الضال عن الطريق المسلوكة في الظلمة لا يزداد إلاّ حيرة وكذلك الكفر لا يزداد صاحبه في الآخرة إلاّ حيرة.
وفي ضرب المثل للمنافقين بالنار ثلاث حكم : إحداها أن المستضيء بالنار مستضيء بنور غيره فإذا ذهب ذلك بقي هو في ظلمته فكأنهم لما أقروا بالإيمان من غير اعتقاد قلوبهم كان إيمانهم كالمستعار.
الثانية أن النار تحتاج في دوامها إلى مادة الحطب لتدوم فكذلك الإيمان يحتاج إلى مادة الإعتقاد ليدوم الثالثة أن الظلمة الحادثة بعد الضوء أشد على الإنسان من ظلمة لم يجد قبلها ضياء فشبه حالهم بذلك.
ثم وصفهم الله تعالى فقال ) صم ( أي عن سماع الحق لأنهم لا يقبلونه وإذا لم يقبلوه فكأنهم لم يسمعوه ) بكم ( أي خرس عن النطق بالحق فهم لا يقولونه ) عمي ( أي لا بصائر لهم يميزون بها بين الحق والباطل ومن لا بصيره له كمن لا بصر له فهو أعمى، كانت حواسهم سليمة ولكن لما سدوا عن سماع الحق آذانهم وأبوا أن تنطق به ألسنتهم وأن ينظروا إليه بعيونهم جعلوا كمن تعطلت حواسه وذهب إدراكه قال الشاعر :
صمٌّ إذا سمعوا خيراً ذكرت به
وإن ذكرت بسوء كلهم أذن
) فهم لا يرجعون ( أي عن ضلالتهم ونفاقهم.
قوله تعالى :( أو كصِّيب ( أي كأصحاب


الصفحة التالية
Icon