صفحة رقم ٢٠٨
ويطبع على قلبه ويمنعه من الإيمان.
فأما قصة جبريل عليه السلام مع فرعون فإنها من هذا الباب فإن غاية ما يقال فيه إن الله سبحانه وتعالى منع فرعون من الإيمان وحال بينه وبينه عقوبة له على كفره السابق ورده للإيمان لما جاءه.
وأما فعل جبريل من دس الطين في فيه فإنما فعل ذلك بأمر الله لا من تلقاء نفسه.
فأما قول الإمام لم يجز لجبريل أن يمنعه من التوبة بل يجب عليه أن يعينه عليها وعلى كل طاعة هذا إذا كان تكليف جبريل كتكليفنا يجب عليه ما يجب علينا.
وأما إذا كان جبريل إنما يفعل أمره الله به والله سبحانه وتعالى هو الذي منع فرعون من الإيمان وجبريل منفذ لأمر الله فكيف لا يجوز له منع من منعه الله من التوبة وكيف يجب عليه إعانة من لم يعنه الله بل قد حكم عليه وأخبر عنه أنه لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم حين لا ينفعه الإيمان.
وقد يقال : إن جبريل عليه السلام إما أن يتصرف بأمر الله فلا يفعل إلا ما أمر الله به وإما أن يفعل ما يشاء من تلقاء نفسه لا بأمر الله وعلى هذين التقديرين فلا يجب عليه إعانة فرعون على التوبة ولا يحرم عليه منعه منها لأنه إنما يجب عليه فعل ما أمر به ويحرم عليه فعل ما نهي عنه والله سبحانه وتعالى لم يخبر أنه أمره بإعانة فرعون ولا حرم عليه منعه من التوبة وليست الملائكة مكلفين كتكليفنا.
وقوله وإن كان التكليف زائلاً عن فرعون في ذلك الوقت فحينئذ لا يبقى هذا الذي نسب إلى جبريل فائدة فجوابه أن يقال إن للناس في تعليل أفعال الله قولين أحدهما أن أفعاله لا تعلل وعلى هذا التقدير فلا يريد هذا السؤال أصلاً وقد زال الإشكال.
والقول الثاني : إن أفعاله تبارك وتعالى لها غاية بحسب المصالح لأجلها فعلها وكذا أوامره ونواهيه لها غاية محمودة محبوبة لأجلها أمر بها ونهى عنها وعلى هذا التقدير قد يقال لما قال فرعون آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وقد علم جبريل أنه ممن حقت عليه كلمة العذاب وأن إيمانه لا ينفعه دس الطين في فيه لتحقق معاينته للموت فلا تكون تلك الكلمة نافعة له وأنه وإن كان قالها في وقت لا ينفعه فدس الطين في فيه تحقيقاً لهذا المنع والفائدة فيه تعجيل ما قد قضي عليه وسد الباب عند سداً محماً بحيث لا يبقى للرحمة فيه منفذ ولا يبقى من عمره زمن يتسع للإيمان فإن موسى عليه السلام لما دعا ربه بأن فرعون لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم والإيمان عند رؤية العذاب غير نافع أجاب الله دعاءه.
فلما قال فرعون تلك الكلمة عند معاينة الغرق استعجل جبريل فدس الطين في فيه لييأس من الحياة ولا تنفعه تلك الكلمة وتحقق إجابة الدعوة التي وعد الله موسى بقوله قد أجيبت دعوتكما فيكون سعي جبريل في تكميل ما سبق في حكم الله أنه يفعله فيكون سعي جبريل في مرضاة الله سبحانه وتعالى منفذاً لما أمره به وقدره وقضاه على فرعون.
وأما قوله : لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر والرضا بالكفر كفر، فجوابه ما تقدم من أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء وجبريل إنما يتصرف بأمر الله ولا يفعل إلا ما أمره الله به وإذا كان جبريل قد فعل ما أمره الله به ونفذه فإنما رضي بالأمر لا بالمأمور به فأي كفر يكون هنا وأيضاً فإن الرضا بالكفر إنما يكون كفراً في حقنا لأنا مأمورون بإزالته بحسب الإمكان فإذا أقررنا الكافر على كفره ورضينا به كان كفراً في حقنا لمخالفتنا ما أمرنا به.
وأما من ليس مأموراً كأمرنا ولا مكلفاً كتكليفنا بل يفعل ما يأمره به ربه فإنه إذا نفذ ما أمره به لم يكن راضياً بالكفر ولا يكون كفراً في حقه وعلى هذا التقدير فإن جبريل لما دس الطين في في فرعون كان ساخطاً لكفره غير راض به والله سبحانه وتعالى خالق أفعال العباد خيرها وشرها وهو غير راض بالكفر فغاية