صفحة رقم ٢٩٠
فإن رؤية النفس في مقام العصمة والتزكية ذنب عظيم فراد إزالة ذلك عن نفسه فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين ) إن النفس لأمارة بالسوء ( والسوء لفظ جامع لكل ما يهم الإنسان من الأمور الدنيوية والأخروية والسيئة الفعلة القبيحة.
واختلفوا في النفس الأمارة بالسوء ما هي فالذي عليه أكثر المحققين من المتكلمين وغيرهم أن النفس الإنسانية واحدة ولها صفات : منها الأمارة بالسوء، ومنها اللوامة، ومنها المطمئنة فهذه الثلاث المراتب هي صفات لنفس واحدة فإذا دعت النفس إلى شهواها مالت إليها فهي النفس الأمارة بالسوء فإذا فعلتها أتت النفس اللوامة فلامتها على ذلك الفعل القبيح من ارتكاب الشهوات ويحصل عند ذلك الندامة على ذلك الفعل القبيح وهذا من صفات النفس المطمئنة، وقيل : إن النفس أمارة بالسوء بطبعها فإذا تزكت وصفت من أخلاقها الذميمة صارت مطمئنة.
وقوله ) إلا ما رحم ربي ( قال ابن عباس : معناه إلا من عصم ربي فتكون ما بمعنى من فهو كقوله ( ما طاب لكم من النساء ) يعني من طاب لكم وقيل هذا استثناء منقطع معناه لكم من رحم ربي فعمصه من متابعة النفس الأمارة بالسوء ) إن ربي غفور ( يعني غفور لذوب عباده ) رحيم ( بهم.
قوله تعالى :( وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي ( وذلك أنه لما تبين للملك عذر يوسف وعرف أمانته وعلمه طلب حضوره إليه فقال أئتوني به يعني بيوسف أستخلصه لنفسي أي أجعله خالصاً لنفسي والاستخلاص طلب خلوص الشيء من جميع شوائب الاشتراك وإنما طلب الملك أن يستخلص يوسف لنفسه، لأن عادة الملوك أن ينفردوا بالأشياء النفيسة العزيزة ولا يشاركهم فيها أحد من الناس وإنما قال الملك ذلك لما عظم اعتقاده في يوسف لما علم من غزارة علم يوسف وحسن صبره وإحسانه إلى أهل السجن وحسن أدبه وثباته على المحن كلها لهذا حسن اعتقاد الملك فيه وإذا أراد الله تعالى أمراً هيأ أسبابه فألهم الملك ذلك فقال ائتوني به أستخلصه لنفسي ) فلما كلمه ( فيه اختصار تقديره فلما جاء الرسول إلى يوسف فقال له أجب الملك الآن بلا معاودة فأجابه.
روي أن يوسف لما قام ليخرج من السجن دعا لأهله فقال اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الأخبار فهم أعلم الناس بالأخبار في كل بلد، فلما خرج من السجن كتب على بابه هذا بيت البلواء وقبر الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء ثم اغتسل وتنظف من درن السجن ولبس ثياباً حسنة ثم قصد باب الملك.
قال وهب : فلما وقف بباب الملك قال : حسبي ربي من دنياي وحسبي ربي من خلقه عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك ثم دخل الدار فلما أبصر الملك قال : اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بك من شره وشر غيره فلما نظر إليه الملك سلم يوسف عليه بالعربية فقال له الملك ما هذا اللسان ؟ قال لسان عمي إسماعيل ثم دعا له بالعبرانية فقال له وما هذا اللسان أيضاً قال يوسف هذا لسان آبائي قال وهب وكان الملك يتكلم بسبعين لغة فلم يعرف هذين اللسانين وكان الملك كلما كلمه بلسان أجاباه يوسف وزاد عليه بالعربية والعبرانية فلما رأى الملك منه ذلك أعجبه ما رأى مع حداثة سن يوسف عليه السلام وكان له من العمر يومئذ ثلاثون سنة فأجلسه إلى جنبه فذلك قوله تعالى فلما كلمه يعني فلما كلم الملك يوسف لأن مجالس الملوك لا يحسن لأحد أن يبدأ بالكلام فيها وإنما يبدأ فيها بالكلام وقيل معناه فلما كلم يوسف الملك قال الساقي أيها الملك هذا الذي علم تأويل الملك