صفحة رقم ١٢٦
دليل على أن الأولى ترك استيفاء القصاص وذلك بطريق الإشارة والرمز والتعريض، بأن الترك أولى فإن كان لا بد من استيفاء القصاص فيكون من غير زيادة عليه بل يجب مراعاة المماثلة ثم انتقل من طريق الإشارة إلى طريق التصريح فقال تعالى ) ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ( يعني ولئن عفوتم، وتركتم استيفاء القصاص وصبرتم كان ذلك العفو، والصبر خيراً من استيفاء القصاص وفيه أجر للصابرين والعافين.
فصل
اختلفت العلماء هل هذه الآية منسوخة أم لا، على قولين : أحدهما أنها نزلت قبل براءة فأمر النبي ( ﷺ ) أن يقاتل من قاتله ولا يبدأ بالقتال ثم نسخ ذلك وأمر بالجهاد وهذا قول ابن عباس والضحاك، فعلى هذا يكون معنى قوله ولئن صبرتم عن القتال، فلما أعز الله الإسلام وكثر أهله أمر الله رسوله ( ﷺ ) بالجهاد، ونسخ هذا بقوله : اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية، القول الثاني : أنها أحكمت، وأنها نزلت فيمن ظلم ظلامة فلا يحل له أن ينال من ظالمه أكثر مما نال منها الظالم وهذا قول مجاهد والشعبي والنخعي وابن سيرين والثوري.
قال بعضهم : الأصح أنها محكمة لأن الآية واردة في تعليم حسن الأدب في كيفية استيفاء الحقوق وفي القصاص وترك التعدي وهو طلب الزيادة، وهذه الأشياء لا تكون منسوخة فلا تعلق لها بالنسخ والله أعلم.
قوله عز وجل ) واصبر وما صبرك إلا بالله ( الخطاب لرسول الله ( ﷺ ) أمر الله سبحانه وتعالى نبيه ( ﷺ ) بالصبر، وأعلمه أن صبره بتوفيقه ومعونته ) ولا تحزن عليهم ( يعني على الكافرين، وإعراضهم عنك وقيل : معنى الآية ولا تحزن على قتلى أحد وما فعل بهم فإنهم أفضوا إلى رحمة الله ورضوانه ) ولا تك في ضيق مما يمكرون ( يعني : ولا يضيقن صدرك يا محمد بسبب مكرهم، فإن الله كافيك وناصرك عليهم.
قرىء في ضيق بفتح الضاد وكسرها، فقيل لغتان.
وقال أبو عمر : والضيق بالفتح الغم وبالكسر الشدة، وقال أبو عبيدة الضيق بالكسر في قلة المعاش وفي المسكين وإما ما كان في القلب والصدر فإنه بالفتح، وقال القتيبي : الضيق تخفيف ضيق مثل هين وهين ولين ولين فعلى هذا يكون صفة كأنه قال سبحانه وتعالى : ولا تك في أمر ضيق من مكرهم.
قال الإمام فخر الدين الرازي : وهذا الكلام من المقلوب، لأن الضيق صفة والصفة تكون حاصلة في الموصوف، ولا يكون الموصوف حاصلاً في الصفة فكان المعنى لا يكن الضيق حاصلاً فيك إلا أن الفائدة في قوله : ولا تك في ضيق، هي أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط بالإنسان من كل جانب، كالقميص المحيط به فكانت الفائدة في ذكر هذا اللفظ بهذا المعنى ) إن الله مع الذين اتقوا ( أي اتقو المثلة والزيادة في القصاص وسائر المناهي ) والذين هم محسنون ( يعني بالعفو عن الجاني، وهذه المعية بالعون والفضل والرحمة يعني إن أردت أيها الإنسان أن أكون معك بالعون والفضل والرحمة، فكن من المتقين المحسنين، وفي هذا إشارة إلى التعظيم لأمر الله، والشفقة