صفحة رقم ٢٨٤
( فصل : في بيان عصمة الأنبياء وما قيل في ذلك )
قال الإمام فخر الدين الرازي : اختلف الناس في عصمة الأنبياء وضبط القول فيها يرجع إلى أقسام أربعة، أحدهما : ما يقع في باب الإعتقاد وهو اعتقاد لكفر والضلال فإن ذلك غير جائز عليهم.
والثاني : ما يتعلق بالتبليغ فقد أجمعت الأمة على كونهم معصومين عن الكذب مواظبين على التبليغ والتحريض.
وإلا لارتفع الوثوق بالأداء واتفقوا على أن ذلك لا يجوز وقوعه منهم عمداً ولا سهواً ومن الناس من جوز ذلك سهواً قالوا لأن الاحتراز عنه غير ممكن.
الثالث : ما يتعلق بالفتيا فأجمعوا على أنه لا يجوز خطؤهم فيها على سبيل العمد وأجازه لبعضهم على سبيل السهو.
الرابع : ما يقع في أفعالهم فقد اختلفت الأمة فيه على خمسة أقوال.
أحدها : قول من جوز عليهم الكبائر.
الثاني : قول من منع من الكبائر وجوز الصغائر على جهة العمد وهو قول أكثر المعتزلة.
الثالث : لا يجوز أن يأتوا بصغيرة ولا كبيرة البتة بل على جهة التأويل وهو قول الجبائي.
الرابع : أنه لا يقع منهم الذنب إلا على جهة السهو والخطأ.
الخامس : أنه لا يقع منهم لا كبيرة ولا صغيرة لا على سبيل العمد ولا على سبيل السهو ولا على سبيل التأويل، وهو قول الشيعة.
واختلفت الناس في وقت العصمة على ثلاثة أقوال : أحدها : قول من ذهب إلى أنهم معصومون من حين وقت الولادة وهو قول الشيعة.
الثاني : قول من ذهب إلى عصمتهم من وقت بلوغهم وهو قول أكثر المعتزلة.
الثالث قول من ذهب إلى أن ذلك لا يجوز منهم بعد النبوة وهو قول أكثر أصحابنا وأبي الهزيل وأبي علي من المعتزلة.
قال الإمام والمختار عندنا لم يصدر عنهم ذنب لا صغيرة ولا كبيرة من حين جائتهم النبوة.
ويدل عليه وجوه أحدها : لو صدر الذنب عنهم لكانوا أقل درجة من أحد الأمة وذلك غير جائز لأن درجة الأنبياء غاية في الرفعة والشرف.
الثاني : لو صدر منه وجب أن لا يكون مقبول الشهادة فكان أقل حالاً من عدول الأمة وذلك غير جائز أيضاً لأن معنى النبوة والرسالة هو أنه يشهد على الله أنه شرع هذا الحكم، وأيضاً فإنه يوم القيامة شاهد على الكل.
الثالث : لو صدر من النبي ذنب وجب الاقتداء به فيه وذلك محال.
الرابع : ثبت ببديهة العقل أنه لا شيء أقبح بمن رفع الله درجته وائتمنه على وحيه وجعله خليفته في عباده وبلاده يسمع ربه يناديه لا تفعل كذا فيقدم عليه ويفعله ترجيحاً لغرضه.
واجتمعت الأمة على أن الأنبياء كانوا يأمرون الناس بطاعة الله فلو لم يطعيوه لدخلوا تحت قوله ) أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون } " وقال ) وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } " الخامس : قال الله تعالى ) أنهم كانوا يسارعون في الخيرات } " ولفظه للعموم فيتناول الكل ويدل على فعل ما ينبغي فعله وترك ما ينبغي تركه، فثبت أن الأنبياء كانوا فاعلين لكل خير وتاركين لكل منهي وذلك ينافي صدور الذنب عنهم.
السادس : قال الله تعالى :( الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس إن الله سميع بصير } " وقال تعالى :( إن الله اصطفى آدم وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين } " وقال تعالى في حق موسى :( إني اصفيتك على الناس برسلاتي وبكلامي } " وقال تعالى :( واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إن أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار } " وغير ذلك من الآيات التي تدل على كونهم موصوفين بالاصطفاء والخيرة، وذلك ينافي صدور الذنب عنهم، وذكر غير ذلك من الوجوه.
قال وأما المخالف فقد تمسك