صفحة رقم ٥٨
إبطاله وإفساده بوجه من الوجوه فقيض الله له العلماء الراسخين يحفظونه، ويذبون عنه إلى آخر الدهر لأن دواعي جماعة من الملاحدة واليهود متوفرة على إبطاله وإفساده فلم يقدروا على ذلك بحمد الله تعالى قوله سبحانه وتعالى :( ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين ( لما تجرأ كفار مكة على رسول الله ( ﷺ ) وخاطبوه بالسفاهة وهو قولهم : إنك لمجنون وأساؤوا الأدب عليه أخبر الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً ( ﷺ ) أن عادة الكفار في قديم الزمان مع أنبيائهم، كذلك فلك يا محمد أسوة في الصبر على أذى قومك بجميع الأنبياء ففيه تسلية للنبي ( ﷺ )، وفي الآية محذوف تقديره ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك يا محمد، فحذف ذكر الرسل لدلالة الإرسال عليه، وقوله تعالى في شيع الأولين : الشيعة هم القوم المجتمعة المتفقة كلمتهم وقال الفراء : الشيعة هم الأتباع وشيعة الرجل أتباعه.
وقيل : الشيعة من يتقوى بهم الإنسان.
وقوله من شيع الأولين من باب إضافة الصفة إلى الموصوف ) وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون كذلك نسلكه في قلوب المجرمين ( السلوك النفاذ في الطريق، والدخول فيه والسلك إدخال الشيء في الشيء كإدخال الخيط في المخيط، ومعنى الآية كما سلكنا الكفر والتكذيب والاستهزاء في قلوب شيع الأولين، كذلك نسلكه أي ندخله في قلوب المجرمين يعني مشركي مكة، وفيه رد على القدرية والمعتزلة وهي أبين آية في ثبوت القدر لمن أذعن للحق، ولم يعاند قال الواحدي قال أصحابنا : أضاف الله سبحانه وتعالى إلى نفسه إدخال الكفر في قلوب الكفار، وحسن ذلك منه فمن آمن بالقرآن فليستحسنه، وقال الإمام فخرالدين الرازي : احتجّ أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يخلق الباطل، والضلال في قلوب الكفار فقالوا قوله : كذلك نسلكه أي كذلك نسلك الباطل، والضلال في قلوب المجرمين وقالت المعتزلة لم يجر للضلال، والكفر ذكر فيما قيل هذا اللفظ فلا يمكن أن يكون الضمير عائد إليه، وأجيب عنه بأنه سبحانه وتعالى قال : ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون فالضمير في قوله كذلك نسلكه عائد إليه، والاستهزاء بالأنبياء كفر وضلال فثبت صحة قولنا : إن المراد من قوله كذلك نسلكه في قلوب المجرمين، أنه الكفر والضلال.
قوله تعالى ) لايؤمنون به ( بمحمد ( ﷺ ) وقيل بالقرآن ) وقد خلت سنة الأولين ( فيه وعيد وتهديد لكفار مكة، يخوفهم أن ينزل بهم مثل ما نزل بالأمم الماضية المكذبة للرسل، والمعنى وقد مضت سنة الله بإهلاك من كذب الرسل من الأمم الماضية فاحذروا يا أهل مكة أن يصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب ) ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون ( يعني ولو فتحنا على هؤلاء الذين قالوا : لو ما تأتينا بالملائكة باباً من السماء فظلوا.
يقال : ظل فلان يفعل كذا إذا فعله بالنهار، كما يقل بات يفعل كذا إذا فعله بالليل فيه يعني في ذلك الباب يعرجون يعني يصعدون، والمعارج المصاعد وفي المشار إليه بقوله : فظلوا به يعرجون قولان : أحدهما أنهم الملائكة وهو قول ابن عباس والضحاك، والمعنى : لو كشف عن أبصار هؤلاء الكفار قرأوا باباً من السماء مفتوحاً والملائكة تصعد فيه لما آمنوا.
والقول الثاني : أنهم المشركون وهو قول الحسن وقتادة والمعنى : فظل المشركون يصعدون في ذلك الباب فينظرون في ملكوت السموات، وما فيها من الملائكة لما آمنوا لعنادهم وكفرهم، ولقالوا إنا سحرنا وهو قوله تعالى ) لقالوا إنما سكرت أبصارنا ( قال ابن عباس : سدت أبصارنا مأخوذ من سكر النهر إذا حبس، ومنع من الجري وقيل : هو من سكر الشراب والمعنى