صفحة رقم ٨٠
ثم ابتدأ فقال تعالى : فيها دفء.
قال صاحب النظم أحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله خلقها ثم يبتدأ بقوله لكم فيها دفء، والدليل عليه أنه عطف عليه قوله، ولكم فيها جمال والتقدير لكم فيها دفء ولكم فيها جمال.
ولما كانت منافع هذه الأنعام منها ضرورية، ومنها غير ضرورية، بدأ الله سبحانه وتعالى بذكر المنافع الضرورية، فقال تعالى : لكم فيها دفء وهو ما يُستدفأ به من اللباس والأكسية ونحوها، المتخذة من الأصواف والأوبار والأشعار الحاصلة من النعم ) ومنافع ( يعني النسل والدر والركوب، والحمل عليها وسائر ما ينتفع به من الأنعام ) ومنها تأكلون ( يعني من لحومها.
فإن قلت : قوله تعالى ) ومنها تأكلون ( يفيد الحصر لأن تقديم الظرف مؤذن بالاختصاص، وقد يؤكل من غيرها.
قلت : الأكل من هذه الأنعام هو الذي يعتمده الناس في معايشهم وأما الأكل من غيرها كالدجاج والبط والإوز وصيد البر والبحر، فغير معتد به في الأغلب : وأكله يجري مجرى التفكه به فخرج ومنها تأكلون مخرج الأغلب في الأكل من هذه الأنعام.
فإن قلت : منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللباس فلم أخر منفعة الأكل وقدم منفعة اللباس ؟ قلت : منفعة اللباس أكثر وأعظم من منفعة الأكل فلهذا قدم على الأكل.
وقوله سبحانه وتعالى ) ولكم فيها ( أي في الأنعام ) جمال ( أي زينة ) حين تريحون وحين تسرحون ( الإراحة رد الإبل بالعشي إلى مراحلها حيث تأوي إليه بالليل.
وقال : سرح القوم إبلهم تسريحاً إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى.
قال أهل اللغة : وأكثر ما تكون هذه الراحة أيام الربيع إذا سقط الغيث، ونبت العشب والكلأ وخرجت العرب للنجعة، وأحسن ما تكون النعم في ذلك الوقت فمن الله سبحانه وتعالى بالتجميل بها فيه كما من الانتفاع بها لأنه من أغراض أصحاب المواشي بل هو من معظمها لأن الرعاة إذا سرحوا النعم بالغداة إلى المرعى، وروحوها بالعشي إلى الأفنية والبيوت يسمع للإبل رغاء وللشاء ثغاء يجاوب بعضها بعضاً، فعند ذلك يفرح أربابها بها وتتجمل بها الأفنية والبيوت، ويعظم وقعها عند الناس.
فإن قلت : لم قدمت الإراحة على التسريح ؟ قلت : لأن الجمال في الإراحة وهو رجوعها إلى البيوت أكثر منها وقت التسريح لأن النعم تقبل من المرعى ملأى البطون حافلة الضروع، فيفرح أهلها بها بخلاف تسريحها إلى المرعى فإنها تخرج جائعة البطون ضامرة الضروع من اللبن، ثم تأخذ في التفرق والانتشار للرعي في البرية فثبت بهذا البيان أن التجمل في الإراحة، أكثر منه في التسريح فوجب تقديمه.
وقوله سبحانه وتعالى ) وتحمل أثقالكم ( الأثقال جمع ثقل وهو متاع السفر وما يحتاج إليه من آلات السفر ) إلى بلد ( يعني غير بلدكم قال ابن عباس : يريد من مكة إلى اليمن، وإلى الشام وإنما قال ابن عباس : هذا القول لأنه خطاب لأهل مكة واكثر تجارتهم وأسفارهم إلى الشام واليمن وحمله على العموم أولى لأنه خطاب عام فدخول الكافة فيه أولى من تخصيصه ببعض المخاطبين ) لم تكونوا بالغيه ( يعني بالغي ذلك البلد الذي تقصدونه ) إلا بشق الأنفس ( يعني بالمشقة والجهد والعناء والتعب والشق نصف الشيء، والمعنى على هذا لم تكونوا بالغيه إلا بنقصان قوة، النفس وذهاب نصفها ) إن ربكم لرؤوف رحيم ( يعني بخلقه حيث خلق لهم هذه المنافع.
قوله سبحانه وتعالى :( والخيل والبغال والحمير لتركبوها ( هذه الآية عطف على ما قبلها، والمعنى وخلق هذه الحيوانات لأجل أن تركبوها، والخيل اسم جنس لا واحد له من لفظه كالإبل والرهط والنساء ) وزينة ( يعني وجعلها زينة مع المنافع التي فيها.


الصفحة التالية
Icon